2013/05/07

رؤى الأفراد: ناصر عباد شريف- القضية الجنوبية



بسم الله الرحمن الرحيم

.................................................................................
لم يكن الموقف السياسي في اليمن قبل إشعال الحرب عمدا هو إعلان إنفصال تحتم دفعه بالوسائل العسكرية، وإنما كانت هناك أزمة سياسية كشفت عن خلافات حقيقية حول أسلوب إدارة الدولة الموحدة.
محمد السيد سعيد/جريدة الأهرام القاهرية 1/6/1994.

إن كثيرا من الدلائل يشير إلى وجود مسئولية مباشرة لصنعاء في بدء الحرب كمخرج أخير لإنهاء دور الحزب الإشتراكي وإعادة صياغة الوضع اليمني وفقا لأهداف بعيدة المدى.


حسن أبو طالب/جريدة الأهرام القاهرية 13/7/1994 

إذا حدث ودخل الشماليون عدن فسوف يضاف سبب جديد للمرارة بين الجانبين فالجنوبيون لن يسعدوا أن يبقوا مغلوبين والشماليون سوف يتصرفون تصرف الغالبين.

عبد العظيم حماد/جريدة الأهرام القاهرية 9/5/1994
 






(إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم...صدق الله العظيم)

نحن الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل..وإذا كان الحاضر قد ضاع فإن أخشى ما نخشاه أن يضيع المستقبل أيضا، ولا نعتقد أن هذا مما تستريح له ضمائركم أيها الإخوة أعضاء الفريق..هذا أولا.
ثانيا: نحن لسنا مع أحد ضد أحد، لكنا مع الوطن الذي نتمنى أن يحتضنكم جميعا كما أنتم، وأن يساوي بينكم كما أنتم على ما فيكم من اختلافات في الأفكار والقناعات والمعتقدات.

ثالثا: ليس وراءنا كشباب تاريخاصراعيايشوش تفكيرنا، ولا ثارات نريد بسببها أن نصفي حسابات، ولا أيديولوجيات تعمي بصائرنا، وإنما وراءنا ساحات للحرية والتغييروكوكبة طويلة من الشهداء والجرحى،إبتداء من ثورة الحراك السلمي ألتي ظلمت، وانتهاء بالثورة الشبابية الشعبية التي أوصلتكم إلى هذا المكان..والثورتان ثورة واحدة في عمقهما الإنساني..إنها ثورة الكرامة التي لا تتجزأ.
رابعا: المجتمع الدولي يمد لنا جميعا يد المساعدة في هذا المؤتمر..وهذه فرصة تاريخيةتستوجب أن نلتقطهابمساعدة بعضنا بعضا وأن نكف عن تقديم أنفسنا للعالم كقصر، نستجر الماضي ولا نعرف كيف نمضي إلى المستقبل.
وحتى لا يقال عناإننانأمرونالناس بالبر وننسى أنفسنافقد حرصنا أن لا نقع في محذور الدفع بالتي هي أسوأ،والتزمنا الدفع بالتي هي أحسن كقيمة أخلاقية علياتمثلناها في صياغة هذه الرؤية وترجمناها عمليا إلى قواعدإسترشادية على النحو التالي:
1 – إن المحاور المسئول لا يستخدم مفاهيم ومفردات وتعابير وأحكام جاهزةيعلم أنها غير مقبولة عند كل أو بعض من يحاورهم.
2 –إن للحوار أخلاقيات لا تحتمل إظهار جزء من الحقيقة وإخفاء الجزء الآخر لأغراض التعمية والتضبيب ودفع من نحاوره إلى اتخاذ مواقف تختلف عن تلك التي كان يمكن أن يتخذها فيما إذا لو عرضت عليه الحقيقة كاملة.
3 –إن الحوار الناجح لا يبنى على معلومات ظنية أو مشكوك فيها يقدمها صاحبها كما لو كانت حقائق يقينية لا يختلف حولها إثنان.
4 – إن الحوار المنتج لا يحتمل المواقف والقناعات المسبقة التي لا يبدو صاحبها مستعدا للتنازل عنها.
5 – إن الحوار ليس دعاية يمكن تقبلها من غير دليل لمجرد أنها استخدمت في الماضيالصراعي لإذكاء وتهييج إنفعالاتالعامة ضد الخصوم السياسيين.
6 - إنالحوار ليس مكابرة أو معاندة، وإنما مناظرة يتعاون المتحاورون خلالها على إظهار الصواب والقبول به، سواء ظهر على يد زيد أو على يد عمرو.
7 – إن الحوار لا يكون حوارا من غيرمنهج  رصين قادر على رؤية العلاقة بين السبب والنتيجة، فضلا عن رؤية هذين المتغيرين عندما يتبادلان الأدوار في شبكة من الحقائق المتقاربة أو المتجاورة..فما هو نتيجة في علاقته بحقيقةما  يمكن أن يصبح سببا في علاقته بحقيقة آخرى.
8 – إن الحوار لا يكون مثمرا إذا راوح المتحاورون في النصف الأول من المشكلة دون أن ينتقلوا إلى نصفها الثاني، وهو وضع الحلول والمعالجات صراحة، أو ضمنا من خلال التحديد الدقيقللأسباب الموجهة إلى الحلول والمعالجات.
9 – إن الحوار ليس بين ملائكة وشياطين، وإنما بين بشر وبشر، ولا يجوز فيه أن يشيطن فريق منا فريقا آخر..فتزكية النفس وشيطنة الآخر ليس من أخلاقيات الحوار.
10 – إن الغرض من الحوار هو مغادرة الماضيالإنقساميالصراعي والتأسيس للمستقبل التعدديالوئاميوالتكاملي..ومن البديهي أن يكون الخطابالمؤسسللمستقبل الذي نريده مختلفا عنخطابالماضيالذي يفترض أننا تجاوزناه ولم نعد نريده.

القضية الجنوبية..إطار معرفي عام:
إنطلاقا من القواعدالإسترشادية التي بيناها أعلاهإستهلينا بحثنا عن جذور القضية الجنوبية بإطار عام شيدناهمنمقدمات مترابطة تشكل في مجموعها خلفية معرفية بالقضية تساعدنا على رؤيتهاكما هي، لا كما يريدها المتشيعون لها ولا كما يريدها خصومها..ونحن نرى أن هذه المقدمات ترقى إلى مستوى المسلمات التي لا تحتاج إلى البرهنة على صحتها..غير أننا لا نصادر على غيرنا الحق في أن يطلب البرهانعلى أي منها أو أنيثبت عكسها..وفي هذه الحالة لن نتردد لحظة واحدة في قبول الصواب عندما يستبين لنا..فنحن هنا فريق واحد يفترض أنه يبحث عن حقيقة موضوعية واحدة مهما اختلفت زوايا الرؤية عند كل منا..يضاف إلى ذلك أن هذا الإطار المعرفي فرض نفسه علينا فرضا وليس هو من باب الترف أو الإسراف في الكلام، فالحديث عن القضية الجنوبيةتشعب كثيرا وذهب مذاهب شتى اختلطت فيها الأوراق بقصد أو بغير قصد وتداخلت فيها الأزمنة مع الأمكنةوالحقائق مع الأوهام والأهواء..وخلاصة هذا كله أن هذه القضية تعرضت للتسطيح والتشويه الممنهجعلى النحو الذي جعل الحوار حولها صعبا حتى على أصحاب النوايا الطيبة الذين يبحثون عن حل عادل لها..لهذارأينا أن نبدأ البحث عن جذورها بوضعها في إطار معرفي عام يجعل الحوار حولها ممكنا وسهلا..وفيما يلي نسوق المقدمات التي تشكل في مجموعها مضمون هذا الإطار:
1 – تحت مسمى اليمن نمييز منهجيا بين اليمن الحضاري الثقافي، واليمن السياسي..الأول نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم..والثاني نتج عن نشؤ ظاهرة الدولة في تاريخ اليمن .
2 –اليمن الحضاري الثقافي كان ومازال واحدا، وهو في أساس الهوية الجامعة برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية للشعب اليمني..أما اليمن السياسي فقد عرف الوحدة والتجزئة في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث..ولهذا وجدت دائما فجوات في تاريخ اليمن السياسي لم يستطع معها أن يشكل سلسلة واحدة متماسكة الحلقات..وآخر فجوة هي تلك التي سبقت 22 مايو 1990وامتدتلأكثر من ثلاثة قرون من الزمن، وبدأت عملية ردمها على يد الحركة الوطنية اليمنية إنطلاقا من مدينة عدن في أربعينيات القرن الماضي.
3 –إن وجود الفجوات في تاريخ اليمن السياسي يعود إلى صراع العصبيات على السلطة والثروة والوجاهة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن قادرة على إسناد التاريخ بكفاءة تحافظ على واحدية الدولة بصورة دائمة.
4– اليمن الحضاري الثقافي سابق على ظهور الإسلام..واليمنيون في عام الوفودكانوا في نظر القبائل العربية  أهل اليمن على اختلاف عصبياتهم من كندة إلى مذحج إلى همدان...الخ..ولهذا يكون الإسلام قيمة مضافة إلى اليمن الحضاري الثقافي تتجاوزه إلى غيره من الحضارات والثقافات وليس قيمة منتجة له..ويترتب على ذلك عدم جواز إختزال الهوية اليمنية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي..الخ.
5–في تاريخ اليمن السياسي كانت القوة وليست الجغرافيا هي التي ترسم حدود الكيانات السياسية التي تزامنت وتصارعت في بعض فترات التاريخ داخل اليمن الحضاري الثقافي، ولهذا كانت هذه الحدود متحركة ومتنقلة ولم تكن ثابتة أبدا..وكان الشعب اليمني الواحد موزعا على هذه الكيانات كسكان وليس كشعوب..وكان السكان يتنقلون بحرية عبر هذه الحدود في هجرات داخلية لم تعرف التوقف..فالحدود التي رسمتها القوة لم تكن مغلقة أمام حركة السكان وتعايشاتهم المشتركة ولم تكن تهدد إنتماءهم العفوي إلى اليمن الحضاري الثقافي الواحد..لقد كانت كيانات متعددة لشعب واحد.
6– كانت ثنائية "العدل والظلم" هي  معيار حكم السكان على الكيانات التي عاشوا في ظلها..أما ثنائية " الوحدة والإنفصال" فلم يكن لها وجود في تلك الفترة، ولم تكن من بين الشعارات التي حركت صراعات وحروب تلك الكيانات.
7 – إن ثنائية "الوحدة والإنفصال" ثنائية متأخرة إرتبط ظهورها بظهور مفهوم "السيادة" المرافق لنشأة الدولة القومية في أوروبا الحديثة..وقد وصلت إلينا في وقت متأخر، وبالتحديدمع بداية تبلور وعينا بالدولة الوطنية..وليس من الجائز علميا إستخدام هذه الثنائية لتفسير الفجوات التي عرفها تاريخ اليمن السياسي..فهذا التاريخ لا يعرف دولا ذات سيادة تزامنت داخل اليمن الحضاري الثقافي إلا الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيةاللتين رسمت الجغرافيا حدودهما لأول مرة في تاريخ اليمن..وقد استمد هذا الترسيم قوته من قوة القانون الدولي الذي بني على مفهوم " السيادة" وليس من قبول اليمنيين به..وما عدا هاتين الدولتين قامت الكيانات السياسية في كامل تاريخ اليمن على الغلبة والعصبيات المستفيدة من ضعف أو تفكك الدول المركزية..وعلى هذا الأساس كانت الدولة اليمنية قبل هاتين الدولتين إما "قوية" قادرة على التمدد داخل الفضاء اليمني بكامله إو "ضعيفة" غير قادرة على التمدد، لكنها لم تكن أبدا "وحدوية" أو "إنفصالية" ولا يصح علميا إسقاط هذه المفاهيم عليها بأثر رجعي لإسناد رغبتنا في الوحدة أو فك الإرتباط.
8–إن أية مناظرة حول تاريخ اليمن السياسي معيارها ثنائية "الوحدة والإنفصال" هي مناظرة باطلة منطقيا ومنهجيا إذا تجاوزتدولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية...وعلى هذا الأساس تكون وحدة الجنوب ووحدة الشمال من المسلمات التي لا تقبل الجدل فيما إذا لو فك الجنوب إرتباطه بوحدة 22 مايو 1990..وليس من حق أي مكون عصبوي أو جهوي في الشمال أو الجنوب أن يمني نفسه بكيان سياسي على حساب وحدة وسلامة أراضي هاتين الدولتين بزعم أنه كان دولة في يوم ما..فالكيانات التي كانت في الجنوب قبل 30 نوفمبر 1967 لم تكن دولا ذات سيادة وإنما كيانات عصبويةإستمرت بعد ذلك ك"محميات" بقوة الإستعمار وليس بقواها الذاتية، والذي ألغى الإستعمار ألغى معه هذه الكيانات أيضا وأعلن على أنقاضها دولة ذات سيادة إسمها جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وليس جمهورية الجنوب العربي.
9 –إن النقاش السياسي الراهن حول الوحدة اليمنية هو نقاش حول الوحدة اليمنية المعاصرة، وليس حول الوحدة اليمنية بإطلاق..والجديد في هذه الوحدة أنها بين دولتين كل منهما ذات سيادة، وأن الجغرافيا وليس القوة هي التي رسمت حدودهما، وأن هذه الوحدة لا يمكن أن تكون إلا سلمية وطوعية..وهذا ما لم يكن موجودا من قبل في تاريخ اليمن..والجنوب هو الحامل الرئيس للوحدةاليمنية المعاصرةإنطلاقا من مدينة عدن.
10–لكي نحصل على معرفة صحيحة يجب أن ننتج أسئلة صحيحة..والسئوال الصحيح ليس:"لماذا عرف تاريخ اليمن السياسي الوحدة"؟، وإنما:"لماذا عرف التجزئة"؟..والجواب: عندما يهيمن مكون عصبوي أو أكثر على الدولة ويقصي ويهمش بقية المكونات..فعندما يحصل هذا يشتغل التعدد ضد الواحديةويتكئ على ضعف التساند بين الجعرافيا والتاريخفتقع التجزئة..وقد تكرر هذا كثيرا في تاريخ اليمن وأدى إلى نشوء ثقافات فرعية في إطار الثقافة الجامعة وأصبح الشعب اليمني أقرب إلى التعدد منه إلى التجانس النسبي الذي يميز الشعب المصري على سبيل المثال..لكن سيكون من السذاجة في ظلمعطيات العصر الحديثالمراهنةعلى ضعف في التساند بين الجغرافيا والتاريخ، لأن هذا الضعف لم يعد موجودا بالنظر إلى التطور الكبير في وسائل المواصلات والإتصال..
11– إن المقارنة زمنيا بين فترات الوحدة وفترات التجزئة في التاريخ اليمني يمكن أن تكون لها قيمة معرفية..لكن لا يمكن أن نؤسس عليها موقفا سياسيا لصالح أو ضد الوحدة اليمنية المعاصرة..فالتجزئة القديمةكانت تقع في أزمنة الركود التي كان فيها كل جيل يكرر حياة الجيل الذي قبله ولا يضيف إليها ما يميزه..والأزمنةالراكدةإستطالت في تاريخ اليمن لقرونإلى أن نشأت مدينة عدن كحاضرة حديثة فصلت بين زمنين وكانت بمثابة النافذة التي أطل اليمنيون من خلالها على العصر الحديث وأعادوا تعريف أنفسهم كجماعة وطنية تعي نفسها وتعرف ماذا تريد..وفي هذه المدينة بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الوحدة اليمنية وكانت الحركة الوطنية اليمنية هي حاملها السياسي والاجتماعي..وصفة "الوطنية" اللصيقة بهذه الحركة لم تأت عفوا وإنما على خلفية الوعي بالوحدة كمشروع وطني يتجاوز الإنتماءات المحلية في الجنوب وفي الشمال..ولكن ما هي الوحدة؟. وكيف نشأت؟.وهل يسري عليها ما يسري على غيرها من سنن الظهور والضمور؟.وكيفتنشأ الشعاراتالتي تحرك العواطف الوحدوية عند الجماهير؟.وهل يمكن أن تستخدم شعارات الوحدة من أجل الإساءة للوحدة؟
12–الوحدةمشترك إنساني يقوم على كثير من القواسم التي تكونت من خلال التعايشات التلقائية بين أفراد الشعب الواحد عبر تاريخهم المشترك والطويل..وهي بهذا المعنى ظاهرة وجدانية عاطفية تنشأ عفويا في تركيبة المجتمع في سياق تفاعل أفراده مع بعضهم البعض وتفاعلهم مجتمعين مع بيئتهم ومع التحديات الحقيقية أو المتوهمة التي تهدد وجودهم في هذه البيئة..وفي سياق هذا التفاعل تتولد المصالح المتبادلة ويستأنس الأفراد والجماعات بعضهم ببعض..ومع الزمن يفضي هذا الاستئناس إلى وجود مشتركات ثقافية ومعرفية وأيديولوجية ونفسية...الخ تمجد هذه التعايشات وترسخها وتعمل على استمرارها عبر الأجيال..وهذه الصيرورة في الحالة اليمنية هي التي تفسر نشؤ وتشكل اليمن الحضاري الثقافي الواحد الذي بدونه يستحيل التطلع إلى يمن سياسي واحد.
13 – وفي مرحلة متأخرة من صيرورة الوحدة يأتي دور النخب التي تصوغ المفاهيم وتضع الاصطلاح الاجتماعي لتعايشات الأفراد والجماعات..وعن هذا العمل النخبوي تنتج "الشعارات" التي تحول ظاهرة الوحدة من حالة "إستئناس" إلى "راية سياسية" تجتمع تحتها كثير من الأهداف والمبادئ القادرة على التعبئة والحشد والتحريك..وهذا ما قامت به الحركة الوطنية اليمنية إنطلاقا من مدينة عدن التي لعبت دور الحاضنة لتعايشات اليمنيين المعاصرين.
14 –إن النخب الوطنية تضع شعارات الوحدة لتتمكن من مخاطبة الجماهير ككتلة واحدة وتعبئتها وحشدها وقيادتها من أجل تحقيق هذا الهدف..لكن يمكن أن يأتي متغلبفي لحظة ما متأخرة ويخطف الشعارات الوحدوية الآسرة للجماهير ويوجههاإنفعاليا إلى حيث يريد هو..وهذا ما حدث بعد 22 مايو 1990 حيث استخدمت شعارات الوحدة لتبرير وشرعنة حرب 1994 التي نعرف جيدا نتائجها وانعكاساتها السلبية على قضية الوحدة اليمنية.
15– إن الحركة الوطنية اليمنية لم تخلق الوحدة من العدم وإنما إستدعتها من أرشيف الماضي ونفظت عنها غبار أزمنة التشظي..لكنها لم تفعل هذا داخل مختبر علمي، وإنما في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي مختلف عن سياقات الماضي الصراعي..وهي بهذا المعنى إستدعت التاريخ بصورة مثالية ونقته ذهنيا من صراعاته وحروبه وتغلباته لإسناد تعايشات الحاضر الوئامي الحي في مستعمرة عدن فبدت هذه التعايشات وكأنها إمتداد تصاعدي طبيعي لتعايشاتوئامية جرت دائما في كل الماضي..وبهذه الطريقة أيقظت الحركة الوطنية اليمنية الوحدة في وعي الجماهير لا كمعرفة دقيقة وإنما كحلم تغييري بدت معه التجزئة القائمة في أربعينيات القرن الماضي وكأنها حالة شاذة في التاريخ اليمني صنعها المستعمر الذي يجب التخلص منه لتحقيق الوحدة..لهذا كانت وحدة الجنوبوالوحدة اليمنية عموما هدفا إستراتيجيا في معركة الجبهة القومية من أجل التحرير..وهذا الهدف معلن في وثائقها ومضمن في إسمها كفصيل ريادي ومتقدم من فصائل الحركة الوطنية اليمنية التي انشغلت بقضية الوحدة.
16– إن اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل في الوحدة اليمنية، وهو الواحد الذي لا يقبل التجزئة، وهو الذي يحرك عاطفة الوحدة ويستدعيها..أما اليمن السياسي فهو الفرع الذي يمكن أن يستدعي وحدة لم تتحق، ويمكن أن يكرس تجزئة قائمة، كما يمكن أن يكرس وحدة تحققت أو يستدعي التجزئة في ظل الوحدة..ولكل من هذه الحالات شروطها ذات العلاقة بالدولة من حيث هي دولة للشعب أم دولة لعصبيات وتحالفات ذات طبيعة غير وطنية.
17–إن اليمن الحضاري الثقافي لا يتخلى عن وظيفته المقاومة للتجزئة إلا إذا دخل في سبات طويل دون أن يظهر من يوقظه..وهذا السبات لا يقع إلا في الفجوات الزمنية التي يطول فيها تشظي اليمن السياسي..وآخر هذه الفجوات التي غفا فيها اليمن الحضاري الثقافيإستطالت لأكثر من ثلاثة قرون قبل 22 مايو 1990..لكن الحركة الوطنية اليمنية أيقظته من غفوته مستفيدة من الممكنات التي وفرتها حاضرة عدن..فعدن هي حاضرة الوحدة اليمنية المعاصرة..ومن سوء حظ اليمنيين أن المخلاف السليماني لم يكن يحتوي على مدينة مناظرة لعدن في زمن الأدارسة وإلا لكان مصيره مختلفا عما آل إليه.
18 - قبلأن تأتي بريطانيا إلى عدن عام 1839 كان الجنوب قد اعتاد العيش الطويل في فسيفساء من السلطنات والمشيخات والإمارات لأكثر من قرن ونصف، بينما كان شمال الشمال منهكا بسبب حروبفترةالفوضى وتعددالإماماتالمتصارعة..أما وسط اليمن فقد مال إلى الإستقرار النسبي في ظل السلطات الإجتماعية للوجهاء المحليين باستثناء البيضاء التي أسس فيها آل الرصاص إمارة لهم كان ظهورها أول خروج على دولة المتوكل على الله إسماعيل في عهد خلفه قبل أن تخرج عليه أي من سلطنات ومشيخات وإمارات الجنوب.
19–عادت الخلافة العثمانية على إثر إحتلال بريطانيالعدن..لكن العودة كانت إلى الشمال هذه المرة إبتداء من المناطق الساحلية والسهلية..وإذا كان الاستعمار البريطاني قد تجنب الدخول في مزيد من المواجهات المكلفة وتعامل مع واقع التجزئة كما هو وكرسه بإبرام إتفاقيات حماية، فإن العثمانيين تحملوا أعباء حروب كثيرة في الشمال لفرض حكم مركزي عليه ساعد على بقائه موحدا بعد رحيلهم.
20 – إن الإستعمار البريطاني الذي كرس التجزئة هو نفسه الاستعمار الذي أنشأ مدينة عدن ووفر من حيث لا يدري شروط إستدعاء الوحدة اليمنية من أرشيف التاريخ إنطلاقا من هذه الحاضرة التي لعبت دور الحاضنة لتعايشات اليمنيين المعاصرين من الجنوب ومن الشمال.
21– كان استدعاء الوحدة اليمنية من أرشيف التاريخ إنطلاقا من مدينة عدن عملا ملحمياإستمر لثلاثة عقود تحولت الوحدة خلالها إلى حالة عاطفية شعبوية جارفة..وبدون هذه الملحمة ما كان بمقدور الحركة الوطنية اليمنية أن تصنع الملحمة الثانية ممثلة بالكفاح المسلح ضد المستعمر الذي انطلق في 14 أكتوبر 1963.
22– لم يكن الكفاح المسلح لطرد الإستعمارالبريطاني الذي كان قد حدد موعدا لرحيله وتسليم السلطة بإرادته لحكومة إتحاد الجنوب العربي، وإنما لإسقاط ذلكالإتحادالذي ضم مستعمرة عدن والمحميات الغربية فقط، بينما قررت حضرموت القعيطيةوالكثيرية وإمارة المهرة البقاء خارجه ككيانات مستقلة..ولولا ملحمة الكفاح المسلح لتركت بريطانيا في الجنوب أربع دول مستقلة ذات سيادة ولها حدود جغرافية معلومة ومحمية بقوة القانون الدولي.
23 – كان لثورة 14 أكتوبر بقيادة الجبهة القومية هدفا ذا طابع مزدوج..فهي ضد الإستعمار من أجل التحرير، وهي ضد السلاطين وحكومة إتحاد الجنوب العربي من أجل التوحيد..لهذا وضعت الجبهة القومية الإستعمار والسلاطين في مربع واحد ولم يقتصر نشاطها ووجودها الحركي داخل مدينة عدن فقط وإنما تمددت كشبكة واسعة من الخلايا والتنظيمات في السلطنات وداخل جيش اتحاد الجنوب العربي.
24 – باستثناء مدينة عدن التي ضمت خلاياها فدائيين من الشمال والجنوب تشكلت خلايا وتنظيمات الجبهة القومية في كل مشيخة وسلطنة وإمارة من أبنائها وسقطت جميعها بأيادي أبنائها قبل رحيل المستعمر من عدن وقبل الذهاب إلى جنييف للتفاوض من أجل الإستقلال.
25 -  بمجرد سقوط السلطنات في يد الجبهة القومية ذهب السلاطينإلىمنافيهم في المحيط الإقليميولاذوا بالصمت دون أن يشككوا بشرعية الدولة المستقلة التي قامت على أنقاض كياناتهم.
26– بعد سقوط السلطنات بيد الجبهة القومية كان عليهاأن تسقط أيضا مدينة عدن بكاملها كي تتأهل للتفاوض مع بريطانيا من أجل الإستقلال كممثل عن شعب الجنوب..لكن كانت هناك أيضا جبهة التحرير التي لها حضور في المدينة دون السلطنات والمشيخاتوالإمارات..وكانت العلاقة بين الجبهتين علاقة غير سوية منذ البداية..فجبهة التحرير تأسست على خلفية خلاف بين الجبهة القومية والقوات المصرية في اليمن..وبسبب ذلك الخلاف امتنعت القيادة المصرية في اليمن عن تقديم الدعم للجبهة القومية(1) ودعمت فكرة تأسيس جبهة التحرير كبديل أو على الأقل كمنافس..وفي مرحلة لاحقة حاولت دمج الجبهتين في جبهة واحدة دون أن تحقق نجاحا..وبسبب ضغط اللحظة الحرجة عشية الإستقلال تطور الخلاف بين الجبهتين إلى مواجهات مؤسفة حسمت خلال أيام لصالح الجبهة القومية التي تأهلت للتفاوض مع بريطانيا كممثل وحيد لشعب الجنوب.
27– والملحمة الثالثة في مسيرة الوحدة اليمنية كانت بناء دولة الإستقلال على استراتيجية الوحدة مع الشمال والنظرة الدونية للتشطير.. ولهذه الملحمة تفاصيلها الكثيرة والمتداخلة في تعميق الهوية اليمنية للجنوب..والملاحم الثلاث مترابطة كل منها تحيل إلى التي تليها،وهي التي أوصلت اليمنيين إلى يوم 22 مايو 1990 وليس إنهيار المعسكر الإشتراكي ولا أحداث يناير 1986.
28– إن إنهيار المعسكر الإشتراكي يمكن أن يكون عاملا مساعدا في تقريب لحظة الإعلان عن قيام الوحدة اليمنية إلى جانب عوامل أخرى، لكنه لم يكن سببا أصيلا في إعلانها..والإصرار على تقديم هذا الإنهيار كسبب لقيام الوحدة يمكن أن يفيد في الإساءة للحزب الإشتراكي اليمني، لكنه يسيء أكثر إلى قضية الوحدة نفسها ويشكك في شرعية إعلانها بتقديمها على أنها مجازفة بمصير الشعب اليمني في الجنوب أقدم عليها الحزب الإشتراكي اليمني ليتجنب مصير الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية..والقضايا الوطنية الكبيرة كقضية الوحدة اليمنية لا تحتمل هذه الخفة في التعاطي معها..فيوم 22 مايو 1990 وراءه تاريخ طويل يمتد إلى أربعينيات القرن الماضي..وبدون هذا التاريخ بملاحمه الثلاث التي ذكرناها ما كان بمقدور هذا اليوم أن يأتي حتى ولو إنهار المعسكر الإشتراكي عشرين مرة.
29–يقدم البعض أحداث يناير 1986 على أنها من الأسباب الحاسمة التي تفسر الإعلان عن الوحدة في 22 مايو 1990..وعادة يرد هذا السبب في سياقاتسجاليةتعبر عن إنكار التاريخ الوطني الوحدوي للجنوبوالرغبة في تهميشه..والأنكأ من كل ذلك أن تقدم أحداث يناير وكأنها اللحظة الوحيدةالممقوتة في تاريخ اليمن وفي تاريخ العرب والمسلمين المثخن بالحروب والصرعات الدموية من أجل السلطة إبتداء من معركة الجمل وحرب صفين وانتهاء بحرب 1994 وحروب صعدة..ومثل هذا التناولالإنتقائيالطافح بالتشفي لا يساعد على استئصال أسباب الحروب الداخلية.
30–إن أحداث يناير نجمت عن الحضور المتكافئ لكل العصبيات المكونة لمجتمع الجنوب في كل مفاصل الدولة المدنية والعسكرية في ظل نظام سياسي غير ديمقراطي يفتقر إلى الآليات القادرة على حل الصراع على السلطة بالطرق السلمية..والمحيط الخارجي المتربص بالجنوب حينها لم يكن بريئا من تلك الأحداث..أما في الشمال فقد آل الصراع الدامي على السلطة إلى إنفراد مكون عصبوي واحد بكل مقدرات الدولة..لكن عندما جاءت الوحدة بطرف آخر منافس إنزلقت البلاد بسرعة إلى حرب 1994.
31– إن قيادة الحزب الإشتراكي اليمني لم تهرب إلى الوحدة وإنما راهنت عليها كمصالحة تاريخية لبناء يمن جديد، بينما راهن الطرف الآخر على الميراث التاريخي للصراع بين الشطرين وانعكاساته على أوضاع كل شطر ورأى في الوحدة مناسبة لابتلاع الجنوب..وفعلاإبتلعه، لكنه لم يستطع أن يهظمه..فالجنوب ليس مجرد جغرافيا يمكن ضمها، وإنما تاريخ ومشروع سياسي وطني وتضحيات جسام من أجل هذا المشروع.
في ضؤ ما سبق ، وحتى تتضح الصورة أكثر، نستكمل هذا الإطار المعرفي بالتأكيد على ما يلي:
1 - إن الجنوب ليس فرعا والشمال ليس أصلا..فللجنوب تاريخه الخاص ضمن التاريخ العام لليمن..وهذه الخصوصية جعلت منه جزءا من اليمن وليس فرعا للشمال..وللشمال أيضا خصوصيته التي جعلت منه جزءا من اليمن وليس فرعا للجنوب..فاليمن ليس الشمال فقط وليس الجنوب فقط، وإنما هما معا باعتبارهما فرعين متكافئين لأصل واحد، ومن غير الجائز إختزال الأصل في أي من فرعيه..ويترتب على ذلك أن الجنوب والشمال متكافئان في الإنتماء لواحدية اليمن الحضاري الثقافي..ومن البديهي أن ينسحب هذا التكافؤ على ثنائية اليمن السياسي ليجعل من الجنوب والشمال شريكين متكافئين في صياغة دولة الوحدة، نظريا في التوافق على عقدها الاجتماعي، وعمليا في تطبيقه، بغض النظر عن التفاوت في المساحة وعدد السكان..وقد قامت وحدة 22 مايو 1990 على هذا المبدأ(2)..لكن حرب 1994 أطاحت بالأسس(3) التي قامت عليها دولة الوحدة وحولت الجنوب من شريك بإرادته إلى ملحق منزوع الإرادة عليه أن ينسى تاريخه وخصوصيته وأن يتصرف كما لوكان فرعا عاد إلى أصله وإلا فهو إنفصالي يجب قمعه وإذلاله باسم الوحدة حتى يستكين ويستسلم للأمر الواقع..وللفكاك من هذا المصير المأساوي إستدعى الجنوب تاريخه الخاص وتمخض عن حراك اجتماعي سياسي راجت فيه شعارات إنفعالية من قبيل فك الإرتباط وتقرير المصير والجنوب العربي.
2 - إن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو الإعلان عن تأسيس جديد لوحدة بين يمنين سياسيين تفصل بينهما قرون من التشظي، وليس إعادة تحقيق وحدة يمن سياسي واحد انشطر في لحظة زمنية منظورة إلى شطرين أحدهما أصل متبوع والآخر فرع تابع..و"الإعلان عن التأسيس" هو لحظة التدشين في عملية التوحيد التي كانت بحاجة إلى وقت وإلى رعاية وتفاهم وتوافق من كل الأطراف، وعلى الأخص الأطراف الثلاثة التي حصدت معظم مقاعد برلمان 1993..أما "إعادة التحقيق" فهو تعبير مخادع يوحي بأن ما حدث في 22 مايو 1990 هو لحظة التتويج في عملية توحيدية بدأت في وقت ما وانتهت يوم 22 مايو 1990.
3–إن وحدة 22 مايو 1990 لم تكن بين حزبين ولا بين سلطتين وإنما كانت بين دولتين لصالح دولة ثالثة بحقائق عسكرية وأمنية وسياسية وإدارية مختلفة لاهي حقائق دولة الشمال ولاهي حقائق دولة الجنوب..وهذه الدولة الثالثة ذات نظام سياسي ديمقراطي يتضمن إدانة صريحة للنظامين السياسيين السابقين، ويعطيها وحدها دون أي من الدولتين السابقتين حق التمدد وممارسة السيادة على كامل جغرافية اليمن الحضاري الثقافي الواحد..ومن غير هذه الدولة الثالثة ذات الحقائق المختلفة والنظام السياسي الديمقراطي المغاير تكون الوحدة باطلة وغير مؤهلة للبقاء والإستمرار.
4 - في مفهوم الوحدة نميز - منطقيا ومنهجيا- بين سياقين..الأول: هو الوحدة كحالة عاطفية وجدانية إستدعتها الحركة الوطنية اليمنية من أرشيف التاريخ بصورة مثالية بعد تنقيته ذهنيا من حروبه وصراعاته وتغلباته وانقساماته وأيقظتها في نفوس وعقول الجماهير كحلم تغييري منذ أربعينيات القرن الماضي إنطلاقا من مدينة عدن..والثاني: هو الوحدة كمشروع سياسي وطني نخبوي معيار نجاحه الوحيد أن يتجسد في دولة ثالثة – لا هي دولة الشمال ولا هي دولة الجنوب – ذات نظام سياسي ديمقراطي حقيقي يضمن أن تكون الدولة لكل مواطنيها لا دولة يغتصبها حزب أو مراكز قوى متكئة على عصبيات.
5 - إن الذين كفروا مشروع دستور دولة الوحدة تحت شعار " نريد الوحدة ولا نفرط بالإسلام" لم يكونوا ضد الوحدة كحالة عاطفية شعبوية، لكنهم كانوا ضدها كمشروع سياسي نخبوي يجب أن يتجسد في دولة ديمقراطية تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها.
6– إن تكفير دستور دولة الوحدة، بتلك الطريقة التي أربكت الحياة السياسية خلال الفترة الإنتقالية، كان مؤشرا على عدم أهلية الشمال الرسمي للوحدة..ولو أن الاستفتاء على دستور دولة الوحدة تم في الموعد الذي حددته إتفاقية 30 نوفمير 1989 فالمرجح أن الإعلان عن دولة الوحدة في 30 نوفمبر 1990 كان سيتعثر وربما تحول إلى أزمة بين الشطرين..أما وقد تم التبكير بالإعلان عن الوحدة في 22 مايو 1990 وترحيل الاستفتاء على الدستور إلى ما بعد هذا التاريح فقد تحول ذلك التبكير وذلك الترحيل من الناحية العملية إلى ترحيل مدبر للأزمة وتبكير مخطط له بالحرب.
7 - إن التحالف الذي أشعل حرب 1994 إستثمر الوحدة كحالة عاطفية شعبوية لتدميرها كمشروع سياسي وطني نخبوي..فبدلا من تجييش عاطفة الوحدة لدى الجماهير لصالح بناء "دولة الوحدة" جرى تجييشها لصالح حرب 1994..وبالحرب تحولت عاطفة الوحدة إلى دماء وجراح أشاعت الكراهية ونقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس.
8– إن الحرب التي أنتجت القضية الجنوبية لم تكن بين جهتين في الجغرافيا وإنما بين اتجاهين في السياسة..فالذين كسبوا الحرب وجنوا ثمارها هم من الشمال والجنوب..والذين خسروها هم أيضا من الشمال والجنوب..أما المهزوم الأول والأكبر فيها فهو الشعب اليمني بشقيه: الجنوبي الذي أصبح جزء كبير منه كارها للوحدة، والشمالي الذي أصبح خائفا عليها.
9– إن حرب 1994 كانت، في مقدماتها الخطابية السياسية والدينية، وفي إجراءاتها العملية، موجهة بصراحة ووضوح  ضد الحزب الاشتراكي اليمني في الشمال والجنوب، ولم تكن ضد الجنوب جغرافية وشعبا..والخلاف الذي أدى إلى الحرب لم يكن بسبب هروب قيادة الحزب الاشتراكي من الوحدة وإنما بسبب هروب قيادة المؤتمر الشعبي العام وحلفائها من استحقاقات بناء دولة الوحدة.
9 - إذا كانت الحرب قد طالت في الشمال جيش الجنوب المغدوروالمحاصر في معتقلات بعيدة عن خطوط إمداده فإنها طالت أيضا مقار الحزب الاشتراكي اليمني في كل المحافظات الشمالية مع أنها ليست أهدافا عسكرية..كما طالت نتائجها الآلاف من أعضائه وكوادره الذين تعرضوا للإقصاء والتهميش والحرب النفسية المعلنة وغير المعلنة حتى أصبح الاشتراكي القابض على قناعاته الوطنية كالقابض على الجمر.
10 - أما في الجنوب فقد طالت الحرب كل شيء من الأرض وما عليها إلى الإنسان العادي وما ألفه واعتاد عليه وتعلق به من تاريخ ورمزيات ومن حضور حقيقي للدولة والنظام والقانون..وتفسير ذلك أن النظام الذي حرك الحرب ليس نظام دولة وإنما نظام عصبيات مغتصبة للدولة..والعصبيات حينما تنتصر عسكريا لا تكتفي بهزيمة الخصم وإنما تذهب بعيدا في استباحة مناطق حضوره التاريخي وتأديبها لتكون عبرة لمن يريد أن يعتبر..وهذه ظاهرة تكررت كثيرا في تاريخ اليمن حيث كان الطرف المنتصر يستبيح معقل الطرف المهزوم على نحو همجي.
11 - إنإتساع حجم الطبقة الفاسدة داخل نظام العصبيات جعل الرئيسالسابق علي صالح يعتمد على العطاءات والمكافآت في استرضاء مراكز النفوذ وفي كسب الولاءات وشراء الذمم..ولهذا السبب أطلق يدها لنهب أراضي الجنوب وثرواته ومقدراته..أما استباحة منازل وبيوت قادة ومسئولي دولة الجنوب فتندرج في إطار الإمعان في الإهانة وممارسة الإذلال.
12 - وفي القضية الجنوبية نميز منطقيا ومنهجيا بين الاعتراف بطابعها الحقوقي والاعتراف بطابعها السياسي..الأول يتوقف عند النتائج ويتجنب الإشارة إلى السبب..يتحدث في أحسن الأحوال عن سوء إدارة نتائج الحرب مع الإقرار الضمني بشرعية دوافعها ومحركاتها..أما الثاني فيتجه إلى السبب مشيرا إلى طبيعة المصالح المتكئة على عصبيات نافذة ما قبل وطنية تعجز عن تبرير نفسها وإدارة شئونها بوسائل أخرى غير الوسائل العسكرية.
13– إن التعتيم على الطابع السياسي للقضية الجنوبية يخلق العقبات أمام أية مقترحات ورؤى وطنية لحلها حلا عادلا يقتلع أسباب الحروب الداخلية ويشكل مدخلا لبناء دولة ضامنة لمصالح كل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب..ومن بديهيات الأشياء أن تكون هذه الدولة متحررة تماما من أي نفوذ عصبوي..لهذا السبب نرى أن الانتصار للقضية الجنوبية هو انتصار لليمن برمته.
14–إن اليمنيين إزاء القضية الجنوبية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما حلها حلا عادلا في ظل وحدة قائمة على الندية والشراكة الحقيقية بين اليمن السياسي الشمالي واليمن السياسي الجنوبي على النحو الذي يحقق مصلحة المواطن العادي في الشمال والجنوب ويخلق شروطا موضوعية للإندماج الوطني الكامل والطوعي في ظل يمن سياسي واحد وجديد، وإما تمكين الشعب  اليمنيفيالجنوب من استعادة دولته لتكون هناك دولتان لشعب واحد تقوم العلاقة بينهما على احترام مصالح هذا الشعب في الجانبينمع الإبقاء على قضية الوحدة متروكة للمستقبل.
15– إن الحل العادل للقضية الجنوبية في إطار الوحدة لن يكون ممكنا إذا ظلتالنخب النافذة في الشمال متمترسة حولخطابها السياسي الذي شرعلحرب صيف 1994 وبقي يبررها إلى اليوم..وإذا كانت الثورة الشبابية الشعبية قد خلعت علي صالح وأسقطت شرعية نظامه المنتج للحروب والأزمات فإن كل من يدافع عن حرب 1994 كليا أو جزئيا بعد كل الذي صار يثبت أن يده مازالت على الزناد وأنه مخلص لنظام الحرب وإن من غير علي صالح..والإخلاص لهذا النظام يضع أصحابه خارج مدخلات الحل العادل للقضية الجنوبية..فهم جزء من المشكلة باعتبارهم من مدخلات النظام الذي أنتجها..ولا يمكن أن يكونوا جزءا من الحل إلا إذا تخلوا عن نمط تفكيرهم السياسي القديم وقبلوا بتقويض النظام السياسي القائم لصالح نظام سياسي جديد مؤهل لبقاء الوحدة وازدهارها..والتخلي عن نمط التفكير القديم يبدأ من الإدانة الدامغة لحرب 1994 ونتائجها وينتهي ببناء دولة ذات نظام سياسي قادر على عزل وتحييد الجوانب السلبية للعصبيات المنتجة للحروب الداخلية والمعيقة لتطور وتنمية البلاد.
16 -لقد كان الرئيسالسابق مخلصا لنظامه الشطري القديم بتحالفاته القائمة حينها ولم يكن في أعماقه يقبل بمخطط الوحدة الذي بني على الإدانة الضمنية للنظامين الشطريين واستوجب زوالهما الطوعي في النظام السياسي الديمقراطي المفترض لدولة الوحدة..وكان لديه مخطط آخر بني على تصنيف نظام الشمال في المعسكر الدولي الذي انتصر في الحرب الباردة وتصنيف نظام الجنوب في المعسكر المهزوم..مايعنيأن المنتصر يجب أن يستميت من أجل إنتصاره وعلى المهزوم أن يستسلم لقدره..لهذاإعتبرالرئيس السابق ذهاب الحزب الإشتراكي اليمني إلى الوحدة ترحيلا لهزيمة حتمية يجب أن تلحق به بأثر رجعي..ولم يكن في قرارة نفسه يعترف للجنوب بأي دور في تحقيق الوحدة. ونظر إليه على أنه الولد الضال الذي هرب من ضياعهأو الفرع الذي عاد إلى الأصل..وعليه أن يذوب في أصله طوعا أو كرها وأن يتخلص من الآثار التي تركتها عليه سنوات الضياع..عليه أن ينسى أنه كان دولة وأن يتصرف كما لو كان محافظة من محافظات الشمال..وكانت رموز نظامه وتحالفاته تقاسمه هذه النظرة إلى الجنوب.
17-إن عدم أهلية نظام علي صالح للوحدة مع الجنوب عام 1990 لا تنسحب فقط على الدولة البسيطة وإنما أيضا على الدولة المركبة..فلو أن دولة الوحدة قامت على أساس فدرالي من إقليمين فقط- شمال وجنوب- فإنها لا محالة ستتحول إلى ساحة حرب..فالحرب كانت مضمرة في حالة الدولة البسيطة أو في حالة الدولة المركبة..وربما جرى تحميل الشكل الفيدرالي للدولة مسئولية إشتعال فتيل الحرب لتبرير خيار الإنتقال إلى الدولة البسيطة كما صاغتها حرب 1994..أما الدولة الفدرالية متعددة الأقاليم- وهو الخيار الآمن للوحدة وقتها- فقد كانت من محرمات النظام السياسي في الجمهورية العربية اليمنية لأنها لن تقوم إلا على أنقاض المصالح المستقرة لتحالفات ذلك النظام.
18– لقد ذهب النظام السياسي في الشمالإلى الوحدة وهو يضمر الحرب..وقد بنى مخططه على استدراج نظام الجنوب إلى الشمال واستخدام العصبيات والكثرة العددية وعامل الجغرافيا للإجهاز عليه..بينما كان نظام الجنوب أعزلا من العصبيات باعتباره تجسيدا لدولة قامت على أساس القانون..وكان أعزلا من جغرافيا الشمال التي لا يملك سلطانا عليها..وكان أيضا أعزلا من الكثرة العددية..ولو أن روح الوحدة كانت متوفرة لتم دمج الجيش مبكرا ليكون قرار الحرب منعدما.
19 - من وجهة نظر القانون الدولي كانت حرب 1994 حربا داخلية..ومن الناحية الفعلية جرت الحرب بين حقائق دولتين تعذر دمجها..وقد انقسمت مؤسسات الدولة على أساس شطري إبتداء من مجلس الرئاسة والحكومة مرورا بالبرلمان وانتهاء بالجيش والإعلام..ففي كل هذه المستويات كانت الحرب بين حقائق دولتين..وعليناأن نعترف بهذه الحقيقة وأن نغلبحقائق الواقع وأن نكف عن الاستقواء على شعبنا في الجنوببزوال الشخصية القانونية والإعتبارية لدولته السابقة، فالحلول الحقيقية لا تكون ممكنة إلا منذ اللحظة التي تبنى فيها السياسة على الاعتراف بمصالح كل أبناء الوطن ومنافعهم.
20 - أدار الجانب الذي فيه الرئيس صالح الحرب باسم الشرعية الدستورية ضد متمردين عليها..والحقيقة أن طرفي الحرب كليهما كان جزءا من الشرعية التي أنتجتها انتخابات أبريل 1993 النيابية، والفارق بينهما هو في الكم الناجم عن الفارق الكبير في عدد السكان بين الشطرين..وهذا يعني أن الجنوب دفع ثمن كونه أقلية سكانية مع أنه الأكبر في المساحة والأوفر في الثروة على المدى المنظور.
21- خلافا للحروب التي شهدها اليمن في القرن العشرين نتجت القضية الجنوبية عن حرب اندلعت في توقيت مختلف يتسم بالانفتاح وزوال الحدود، الأمر الذي يسر من ذيوعها وشيوعها وأكسبها بعدا إعلاميا على المستويين الإقليمي والدولي لم تستطع معه سلطة الحرب أن تنفرد في صياغة أسبابها ونتائجها إعلاميا كما تريد..لقد التفت العالم كله إلى حرب 1994..وإذا كانت القيادات التي شردتها الحرب قد عملت على تدويل القضية إعلاميا على الأقل فإن تلك التي أشعلتها كشفت عن ممارسات إقصائية وإلغائية عمقت من جروح الحرب على المستوى الشعبي وخلقت نزعات معادية للوحدة وأيقظت هويات الماضي السلاطيني التي ترفع الآن راية الجنوب العربي في مواجهة الهوية اليمنية للجنوب التي انتصرت لها ثورة 14 أكتوبر 1963.
22 - إن الوحدة لا تكون إلا بين متحابين تواقين إلى العيش المشترك ومستعدين لحل مشاكلها أولا بأول على قاعدة التكافؤ والندية..أما الوحدة التي يجري تسويغها على مبدأ :"إذا لم نتوحد سنظل نتحارب" هي وحدة لا تنهي الحروب وإنما تغير شروطها..وهذا ما فعلته وحدة 22 مايو 1990  عندما نقلت السيادة على الجنوب من عدن إلى صنعاء وحولت الحرب الباردة - الساخنة أحيانا - بين النظامين الشطريين من حرب دولية إلى حرب داخلية استمرت باردة خلال الفترة الانتقالية لتتحول إلى ساخنة صيف 1994.
23 – تثبت الإقتباسات المأخوذة عن صحيفة الأهرام والتي صدرناها هذه الرؤية أن القضية الجنوبية معروفة للقاصي المحايد منذ عام 1994 والأولى أن تكون معروفة للداني عام 2013 بعد أن ظهرت الحقائق كاملة على نحو لا يحتمل التستر عليها أو اختلاق أسباب واهية لتبريرها أو تفسيرها.

تعريف القضية الجنوبية:
من الصعب الإمساك بجذور القضية الجنوبية بمعزل عن تعريفها..ومن الإطار المعرفي السابق الذي استهلينا به هذه الرؤية تبين أن لهذه القضية طابعا سياسيا وآخر حقوقيا، ومن بديهيات الأشياء أن يكون لها تعريفان أحدهما سياسي والآخر حقوقي.
أولا: التعريف السياسي للقضية الجنوبية:
القضية الجنوبية هي نتاج فشل النخب السياسية اليمنية في تحويل وحدة 22 مايو 1990 من حالة عاطفية شعبوية إلى مشروع سياسي نخبوي مجسد في دولة ديمقراطية تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها.
يشير هذا التعريف بوضوح إلى جذر القضية الجنوبية كقضية سياسية..ولكي تتضح الصورة أكثر لابد من تفكيك محتوياته وتعريفها إجرائيا على النحو التالي:
1 – الفشل: والمقصود به الفشل في بناء دولة الوحدة التي بدأت لحظة تدشينها يوم 22 مايو 1990..وحرب 1994 هي أبرز المظاهر الكارثية لهذا الفشل..والنتائج التي ترتبت على حرب 1994 أثبتت أن الفشل كان صناعة، وأن الحرب لم تكن إجراء وقائيا للدفاع عن الوحدة، وإنما وسيلة للهروب من استحقاقات بناء دولة الوحدة وتعميم نظام الجمهورية العربية اليمنية على كامل اليمن.
2 – النخب السياسية اليمنية: ونعرفها إجرائيا بأنها تلك التي تضمنتها قائمتا أل(16) وأل(17)، دون أن نصادر على أعضاء الفريق حق الحذف و/ أو/الإضافة في ضؤ الحجج التي يمكن أن تظهر في مجرى الحوار وتفرض نفسها على الجميع..وتضم قائمة أل(16) القيادات الجنوبية التي اتهمت أثناء حرب 1994 بالتمرد على "الشرعية" وتدبير "مؤامرة الردة والإنفصال"، وقد صدرت في حقها "أحكام قضائية" بعد حرب 1994، وعلى رأس هذه القائمة يأتي علي سالم البيض نائب رئيس مجلس الرئاسة الأمين العام للحزب الإشتراكي اليمني، وحيدر أبو بكر العطاس رئيس الحكومة عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني..بينما تضم قائمة أل(17) القيادات الشمالية التي شملها بيان سياسي صدر عن القيادة الجنوبية أثناء الحرب حملها مسئولية "الإنقلاب" على وحدة 22 مايو السلمية الطوعية وما سيترتب على ذلك من تداعيات..وعلى رأس قائمة ال(17) يأتي علي عبد الله صالح رئيس مجلس الرئاسة رئيس المؤتمر الشعبي العام، والشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب رئيس حزب التجمع اليمني للإصلاح، والشيخ عبد المجيد الزنداني عضو مجلس الرئاسة رئيس مجلس شورى التجمع اليمني للإصلاح.
3 – النطاق الزمني للقضية الجنوبية كقضية سياسية: يقع النطاق الزمني للقضية الجنوبية داخل الحيز الزمني الذي بدأ في  22 مايو 1990 واستمر إلى اليوم..وأي بحث عن جذور لهذه القضية قبل 22 مايو 1990 ما هو إلا خلط للأوراقومحاولة للهروب من تحمل مسئولية الفشل في بناء دولة الوحدة وإلقاء اللائمة على فترات الصراع بين النظامين السياسيين السابقين وانعكاساته على أوضاعهما الداخلية قبل الوحدة.
ثم أن قيادتي شطري اليمن إعتبرتا الوحدة مصالحة تاريخية ولم توقعا على إعلان 22 مايو 1990 إلا بعد أن توافقتا على أن "الوحدة تجب ما قبلها"..وقد استبشر الشعب اليمني خيرا بهذا المبدأ ورأى فيه دليلا على النضج السياسي لقيادتي الشطرين..وعدمإحترام هذا المبدأ بعد 22 مايو 1990 لا يبرر البحث عن جذور للقضية الجنوبية قبل 22 مايو 1990 وإنما يستوجب توجيه الإدانة الأخلاقية والوطنية لأولئك الذين لم يحترموه ولم يكونوا عند مستوى المسئولية التي توقعها منهم الشعب اليمني.
4 –النطاق الجغرافي للقضية الجنوبية: بالنظر إلى الإيحاء الجهوي للتسمية يشار إلى النطاق الجغرافي للقضية الجنوبية على أنه المنطقة التي التي كانت قبل  22 مايو 1990 تشكل أراضي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وجزرها ومياهها الإقليمية..لكن بالنظر إلى جوهر القضية من حيث مضمونها الوطني العام السياسي والقانوني والإنساني، ومن حيث أنها نتاج نهج سلطوي لا يمت بأي صلة إلى منطق الدولة ومعناها فمن غير الموضوعي قصر نطاقها الجغرافي على ما توحي به التسمية..فالنهج السلطوي مورس على اليمن كله بشكل فاضح بعد حرب 1994..وهو بهذا المعنى سبب ثابت لنتائج وردود أفعال إختلفت في الجنوب عنها في الشمال..فللجنوب خصوصيته التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي مكنته من الإحساس المبكر بهذا النهج السلطوي المدمر والتحول إلى حراك إجتماعي سياسي مناهض..أما الشمال فقد تأخر كثيرا..وتأخر على نحو خاص في فهم وتفسير غليان الجنوب وانساق وراء الخطابات الإعلامية والسياسية السطحية التي شوهت وعيه بالقضية الجنوبية ومنعته من التضامن المبكر مع الحراك الجنوبي وتحويله إلى حراك وطني عام في كل اليمن..ولو أن الثورة الشبابية الشعبية تزامنت مع ثورة الحراك لكانت تفاصيل المشهد السياسي اليمني مختلفة عما هي عليه اليوم.
صحيح أن الثورةالشبابية الشعبية هي امتداد لثورة الحراك، لكنها في جزء كبير منها امتداد سياسي وليس امتدادا إنسانيا..فالذي حرك بعض الفاعلين فيها هو الخوف من ضياع الوحدة وليس التعاطف مع الجنوب كتاريخ وطني يتعرض للتحقير والتسفية، وكإنسان يهان بنتائج حرب 1994..والمشكلة في الشمال أن جزءا كبيرا من نخبه متورط بطريقة أو بأخرى في تلك الحرب.
5– تضمن التعريف مستويين لمعنى الوحدة هما:
أ – الوحدة كحالة عاطفية شعبوية: وهي وحدة الشعب اليمني القائمة منذ ما قبل 22 مايو 1990..ولم تكن هذه الوحدة محل خلاف أو اعتراض عليها من أحد في الشمال أو الجنوب، لا على المستوى الشعبي ولا على المستوى الرسمي..أما لماذا يجاهر البعض في الجنوب اليوم برفض الوحدة كحالة عاطفية شعبوية وينكر هويته اليمنية فهذا من نتائج حرب 1994 التي دمرت قدسية الوحدة عند جزء كبير من أبناء الشعب اليمني في الجنوب ونقلت التشطير من الجغرافيا إلى النفوس..والقاعدة أنه لا يوجد إنفصاليون في الجنوب وإنما سياسات وممارسات تدميرية أساءت للوحدة وخلقت حالة إحتقان تفضل الإنفصال على الضم والإلحاق.
ب – الوحدة كمشروع سياسي نخبوي مجسد في دولة ديمقراطية تقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها في الشمال والجنوب: والوحدة بهذا المعنى كانت محل خلاف كشف عن نفسه بسرعة بعد إعلان 22 مايو 1990..ولهذا الخلاف محطات كثيرة بدأت بالشعار الشهير:"نريد الوحدة ولا نفرط بالإسلام"، ومرت بالإغتيالات السياسية لكوادر الحزب الإشتراكي اليمني خلال الفترة الإنتقالية والتنصل عن تنفيذ مهام هذه الفترة، وانتهت إلى أزمة سياسية وحرب أفضت إلى نتائج خطيرة على مستوى الجنوب خصوصا واليمن عموما..وهذه النتائج هي التي أوصلت اليمن إلى ثورة الحراك السلمي في الجنوب وإلى الثورة الشبابية الشعبية وأخيرا إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي استهل أعماله في الثامن عشر من مارس الماضي.
إن رفع راية الإسلام ضد دستور دولة الوحدة لم يكن عملا موجها ضد الوحدة كحالة عاطفية شعبوية، لكنه قطعا كان ضدها كمشروع سياسي وطني..والباحث الذي لا يميز بين هذين المستويين في معنى الوحدة سيقع تلقائيا في خطأ المطابقة بين موقف المواطن العادي الذي سالت دموع الفرح من عينيه وهو يرى حلمه الوطني يتحقق بعد قرون من التشظي، وبين مواقف النخب ومراكز القوى التي ذهبت تغلب مصالحها الفئوية وحساباتها السياسية الخاصة دون أدنى تقدير لعظمة الإنجاز الوطني الكبير.
كما أن حرب 1994 لم تكن بسبب خلاف حول الوحدة كحالة عاطفية شعبوية وإنما بسبب خلاف حول الوحد كمشروع سياسي وطني..أي أن الخلاف لم يكن حول الوحدة وإنما حول دولة الوحدة..بدليل أن الحرب لم تنه المشكلة وإنما عمقتها ونقلتها إلى مستويات خطيرة..والقول بأن المشكلة ليست في الحرب وإنما في الطريقة التي أدار بها علي عبدالله صالح البلاد بعد الحرب قول مردود عليه..فهو يفترض أن إدارة هذا الرجل للبلاد قبل الحرب تختلف عن طريقة إدارته لها بعد الحرب..والحقيقة أن الذي تغير ليس طريقة إدارته التي كانت أحد أسباب الحرب، وإنما رهاناته وتحالفاته بعد أن اعتقد أنه قضى على الحزب الاشتراكي اليمني وابتلع الجنوب وتحرر من الإرتهان لتحالفاته القديمة التي قاسمته العداء للحزب الاشتراكي اليمني قبل الوحدة والرغبة في القضاء السريع عليه بعدها..وللتدليل على ذلك نذكر بالحقائق التالية:
1 - قبل 22 مايو 1990 كانت أطراف النظام في صنعاء تقول: إن الحزب الاشتراكي اليمني يتهرب من الوحدة حتى يظل متحكما برقاب أبناء الشعب اليمني في الجنوب، وإن الوحدة هي طريق خلاصهم الوحيد من هذا الكابوس..واليوم هناك حراك اجتماعي سياسي واسع في الجنوبيرفع شعار فكالإرتباطويظهر الكراهيةللحزبالإشتراكي الذي قاد الجنوب إلى "كابوس الوحدة"!!!
2 - خلال حرب صيف 1994 قال التحالف المنتصر إن الحزب الاشتراكي يريد أن يفرض الإنفصال بالقوة ضدا على إرادة أبناء الشعب اليمني في الجنوب..واليوم تتحدث مكونات الحراك السلميعن "إحتلال" فرض على الجنوب بوضاعة الحرب لا عن وحدة جاءته بشرف الديمقراطية!!!
3 – في 21 مايو 1994 وفي ظروف صعبة أصبحت فيها عدن تحت وطأة راجمات الصواريخ وبلا ماء وكهرباء استنجد علي سالم البيض بقشة فك الارتباط وقرأ في الوقت الضائع إعلانا سياسيا أبقى على قضية الوحدة كهدف مستقبلي قابل للتحقيق عندما تتوفر شروطه الموضوعية السليمة..واعتبر دستور الجمهورية اليمنية هو دستور دولة جمهورية اليمن الديمقراطية..كما اعتبر وثيقة العهد والاتفاق أساسا لبناء نظامها السياسي والاقتصادي..واليوم يتحدث البعض ممن خاضوا تلك الحرب تحت راية الوحدة عن "مؤامرة" ليمننة "الجنوب العربي" ويطالب برحيل "الاحتلال"!!!
4 – خرجت أزمة الوحدة إلى العلن في أغسطس 1993 واعتقد كثيرون أنها انتهت بحرب 1994..غير أن الحرب لم تنه الأزمة وإنما عمقتها وأفرزت لاعبين سياسيين جددا وبدلت تموضعات فاعلين قدامى، فبدت الآن أكثر تعقيدا حيث أصبح جزء كبير من أبناء الجنوب يجاهر في زمن الوحدة بما لم يهمس به أحد في زمن التشطير..وهذا دليل قاطع على أن حرب 1994 أصابت الوحدة اليمنية بجروح لن تندمل إلا بتغيير مكونات ومؤسسات ومحتوى النظام المنتج للحروب وإعادة صياغة الوحدة اليمنية على النحو الذي يضمن شراكة حقيقية للجنوب في السلطة غير مهددة بمراكز القوى وأصحاب النفوذ أو بالتفاوت الكبير في تعداد السكان.
5 – نتائج حرب 1994 تؤكد أن دولة الوحدة وليس الوحدة هي موضوع الخلاف الذي كان..ومعنى ذلك أن ميزان القوى عند إعلان الوحدة كان ممانعا لبناء الدولة..وإذا كان الشمال حينها هو الطرف الأقوى في معادلة القوة فالممانعة كانت شمالية ومن قبل أطراف ومراكز نفوذ لها مصلحة في أن لا تكون هناك دولة تساوي بين كل اليمنيين..أما علي صالح فهو ابتداء نتيجة لهذه الممانعة المبكرة التي صادرت الثورة والجمهورية في الشمال، وهو انتهاء من جنى ثمار هذه الممانعة لصالح مشروعه العائلي الخاص ثم أدار ظهره للجميع.
6 –مافعله علي سالم البيض قبل حرب 1994 فعلته أحزاب اللقاء المشترك قبل ثورة 11 فبراير 2011..وقد بني هذا الحكم في ضوء المقارنات التالية:
1 – بعد انتخابات أبريل 1993 أعلن علي سالم البيض عن وجود أزمة سياسية داخل الائتلاف الثلاثي الحاكم سارعت قيادتا المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح إلى إنكارها وقالتا إن البيض افتعلها لتحقيق مكاسب أكبر من حجمه في البرلمان..وبعد الانتخابات الرئاسية لعام 2006 رفعت أحزاب اللقاء المشترك صوتها في الحديث عن وجود أزمة أنكرتها قيادة المؤتمر الشعبي العام وقالت إنها غير موجودة إلا في رؤوس قادة المشترك الذين يخشون المنازلة الديمقراطية أمام صناديق الاقتراع.
2 – في أزمة دولة الوحدة رفض علي سالم البيض الاستقواء بالأكثرية العددية في البرلمان..وكانت أكثرية شطرية ناجمة عن التفاوت في عدد السكان..وفي الأزمة التي أعقبت إنتخابات 2006 رفضت أحزاب المشترك الاستقواء بالأكثرية المريحة المملوكة للمؤتمر الشعبي العام رغم أنها لم تعد أكثرية شطرية.
3 – في أزمة دولة الوحدة دعا علي سالم البيض إلى حوار وطني موسع للتوافق على دولة بنظام سياسي يحل أزمات البلاد فكانت لجنة حوار القوى السياسية التي أن أنتجت وثيقة العهد والاتفاق..وأثناء الأزمة بين المؤتمر الشعبي العام وتحالف أحزاب المشترك دعا هذا الأخير إلى حوار وطني شامل يحل أزمات البلاد فكان مؤتمر أبوللو الذي أنتج وثيقة الإنقاذ.
4 – في أزمة دولة الوحدة اختلف علي صالح وعلي البيض في تفسير معنى التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمان..وفي الأزمة بين حزب المؤتمر وتحالف أحزاب المشترك تكرر الخلاف نفسه حول تفسير ديباجة اتفاق فبراير 2009.
 5 – في أزمة دولة الوحدة وصف علي صالح وثيقة العهد والاتفاق بأنها وثيقة الخيانة وذهب مع حلفائه إلى الحرب..وفي الأزمة بين المؤتمر وتحالف أحزاب المشترك وصف اتفاق فبراير 2009 بأنه خطأ تاريخي لا يجب أن يتكرر وذهب يحضر لانتخابات نيابية إنفرادية بعد أن أصدرت قيادة حزبه بيانا سياسيا في 30 اكتوبر 2010 وجهت من خلاله لقيادات أحزب المشترك تهما كلها تستوجب عقوبة الاعدام..ولو أن أحزاب المشترك كانت تملك جيشا نظاميا على غرار ما كان لدى الحزب الاشتراكي لكانت الحرب مؤكدة.
6 – في أزمة الوحدة طالب علي سالم البيض برعاية إقليمية ودولية للحوار ضامنة لتطبيق نتائجه..وحينها اتهم بالسعي لتدويل الأزمة وإخراجها عن إطارها الوطني..وفي الأزمة بين حزب المؤتمر وتحالف أحزاب المشترك طالبت المعارضة بضمانات من هذا القبيل وحصلت عليها أخيرا بفضل الثورة الشبابية الشعبية وقبلها ثورة الحراك السلمي في المحافظات الجنوبية.
هذه المقارنات وغيرها تثبت أن جذور المشكلة ليست في الجنوب ولا عند الحزب الاشتراكي اليمني ولا عند مكونات الحراك السلمي ولا في ماضي الصراع بين شطري اليمن، وإنما في النظام السياسي للجمهورية العربية اليمنية كما صاغته ثلاثة أحداث هي إنقلاب 5 نوفمبر 1967 ضد الرئيس السلال، وأحداث أغسطس 1968 ضد وحدات الجيش الوطني الذي دحر حصار صنعاء في ملحمة السبعين يوما، والمصالحة مع الملكيين عام 1970 التي أعادت اللحمة للقوى التقليدية على حساب الوحدة الوطنية للشمال..وهذه الأحداث الثلاثة تظافرت وجعلت من النظام السياسي في الجمهورية العربية اليمنية نظاما عصبويا منتجا للأزمات والحروب ومعيقا لبناء دولة وطنية لكل اليمنيين.
بعد كل هذا العرض أمام مؤتمر الحوار الوطني رأيان على الأخذ بأي منهما تتوقف طبيعة معالجات وحلول القضية الجنوبية:
الأول: هو الرأي القائل بأن حرب 1994 كانت بسبب خلاف حول الوحدة ودفاعا عنها..وفي هذه الحالة من الصعب إلقاء اللوم على قوى الحراك السلمي في الجنوب عندما تلح على فك الإرتباط مادام المنتصرون في حرب 1994 مستمرين في الضغط على الزناد ومصرين على خطاياهم التي دمرت الحلم الوطني الكبير وأساءت للجنوب خصوصا ولليمن عموما.
الثاني: هو الرأي القائل بأن حرب 1994 كانت بسبب خلاف حول دولة الوحدة..وبالتالي كان من الممكن تجنبها بتقديم تنازلات لصالح الوطن ووحدته وأمنه واستقراره..وفي هذه الحالة ينتظر من الأطراف التي أشعلت حرب 1994 أن تعتذر للشعب اليمني عن تلك الحرب لتثبت أنها أصبحت مؤهلة أخلاقيا ووطنيا وسياسيا للوحدة وأنها تقبل بدولة لكل اليمنيين تنتفي فيها أسباب الحروب الداخلية إلى الأبد. 
ثانيا: التعريف الحقوقي للقضية الجنوبية:
هي جملة المظالم الحقوقية والمادية والمعنوية التي نجمت عن حرب 1994 وألقت بظلالها الكثيفة على حياة السكان في الجنوب..وهذه المظالم تحتاج إلى جمع المعلومات بشأنها وتصنيفها وتبويبها ثم تكييفها قانونيا على النحو الذي يسمح بمعالجتها في ضؤ خطة مزمنة.
والملاحظ أن الحديث عن المظالم التي وقعت على الشعب اليمني في المحافظات الجنوبية يركز دائما على المظالم المادية ويهمل بعدها الإنساني الخطير الذي نجم عن الاختلالات الكبيرة والسريعة في مختلف منظومات الحياة وأوجدت أوضاعا إنسانية لا تحتمل..فالشعب اليمني في الجنوب يتعرض لعقاب جماعي مهين..والأنكأ من كل ذلك أن هناك نخبا في الشمال تستنكر عليه أنينه بحجة أنه لم يعد لهذا الأنين أي مبرر بعد الثورة الشبابية الشعبية التي نقلت السلطة إلى رئيس جنوبي يعاونه مسئولون كبار من الجنوب..والحقيقة أن هذا القول يندرج في إطار المن ويعبر عن نزعة إنفصالية واستعلائية مبطنة.
إن الشعب اليمني في الجنوب ليس قبيلة يريحها أن ترى شيخها على رأس الدولة..وقد مر عليه زمن كان فيه معظم كبار المسئولين في دولته من الشمال..فهو لا يهتم بشخص الحاكم وإنما بنظام الحكم وانعكاسه على حياته.
أما الرئيس هادي فليس رئيسا لأنه جنوبي وإنما لأنه يمني..والذي صعده إلى الرئاسة ليس أولئك الذين تسببوا في تجويع الشعب اليمني في الجنوب وإهانته وإنما أولئك الذين قضوا في جمعة الكرامة وفي مختلف ساحات الحرية والتغيير..ثم أن الحديث المتكرر عن رئيس جنوبي بهذه الطريقة لا يستقيم إلا إذا كانت حرب 1994 بين جهتين في الجغرافيا وليس بين إتجاهين في السياسة.









جذور القضية الجنوبية:
من العرض السابق نستطيع الآن أن نتحدث عن جذرين للقضية الجنوبية دون أن يجانبنا الصواب..أحدهذينالجذرينعام يشمل اليمن كله، والآخر خاص يشمل الجنوب فقط..الأول مسئول عن الطابع السياسي للقضية الجنوبية كقضية وطنية، والآخر مسئول عن طابعها الحقوقي كقضية إنسانية..وهذان الجذران متداخلان موضوعيا في وجود هذه القضية كأنهما جذر واحد، لكنا سنعمد إلى الفصل بينهما ذهنيا كإجراء منهجي يصعب بدونه إنتاج معرفة صحيحة بهذه القضية.
الجذر السياسي للقضية الجنوبية:
يكمن هذا الجذر في تعثر المشروع الوطني اليمنيممثلا بدولة الوحدة التي أطاحت بها حرب 1994..حيث تنازل الجنوب عن دولته سلماوطوعا لصالح دولة الوحدة، لكنه خسر دولته ولم يعثر علىدولة الوحدة التي لم يتبق منها سوى اسمها وعلمها ونشيدها الوطني،فألفى نفسه مغدورا كما لو أنهتنازل عن دولته لصالح دولة الشمال التي يرفضها وليس لصالح دولة الوحدة التي حلم بهاوسعى إليها وكابد كثيرا من أجل بلوغها باعتباره الحامل الرئيس للقضية الوطنية اليمنية منذ أربعينيات القرن الماضي إنطلاقا من مدينة عدن التي تعتبر عن حق حاضرة الوحدة اليمنية المعاصرة..وهذا الجذر يعبر عن الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية، سلبا وإيجابا..فالجنوب إما أن يستعيد دولته التي خسرها، وفي هذا هزيمة لليمن كلهتعتقد قوى تقليدية في الجنوب أنه سيكون مكسبالها في غياب الحزب الإشتراكياليمني..وإما أن يعثر على دولة الوحدة التي سعى إليها، وفي هذا إنتصار لليمن كلهتعتقدقوى تقليدية في الشمال أنه سيكونخسارةلها بوجود الحزب الإشتراكياليمني..والقضية الجنوبية بهذا المعنى هي قضية نخب بعضها يريد إستعادة الدولة ويعيد جذر القضية إلى ما قبل 22 مايو 1990، وربما إلى ما قبل 1967، وبعضها يريد إستعادة الوحدة ويعيد جذر القضية إلى ما بعد 1990.
الجذر الحقوقي والإنساني للقضية الجنوبية:
يتمثل هذا الجذر في استباحة الجنوب والتعامل معه كغنيمة حرب..فبما أن الجنوب هو الحامل الرئيس للمشروع الوطنياليمني فإن الطرف المنتصر في حرب 1994 تطرف في تجاوز هدفه السياسي المباشرفي التنكيل بالحزب الإشتراكي اليمني والقضاء عليه وذهب يستبيح الجنوب وينهب مقدراته وثرواتهويدمر مكاسبه ومنجزاته ومؤسساته ويهين إنسانه ويخون ويشرد رموزه ويسفه ويحقر تاريخهوينقل إليه أمراض نظامه السياسيوكل مظاهر غياب الدولة والنظام والقانون، وكأنه أراد تأديب الجنوب وإذلاله عقابا له على تاريخه الوطني الذي أوصل اليمنيين إلى 22 مايو 1990..وقد أنتج هذا النهج أوضاعا مأساوية في المحافظات الجنوبية مست كل تفاصيل الحياة اليوميةللإنسان العادي وأفقدته الأمل بالغد..والقضية الجنوبية بهذا المعنى هي قضية الإنسان العادي الذي لا يهمهمنالذي يحكم، وإنما كيف يحكم؟
التداعيات وردود الأفعال:
بما أن الحديث يدور حول جذرين للقضية الجنوبية على النحو الذي بيناه فمن الطبيعي أن يكون هناك نوعان من التداعيات وردود الأفعال..النوع الأولإحتجاجي جماهيري والنوع الثاني سياسي نخبوي،مع مراعاة التأثير المتبادل بينهما..فالنخب تحتاج إلى جماهير كي يكون لخطابها السياسي مصداقية ومشروعية وعمق شعبوي..والجماهير تحتاج إلى نخب تعبر عن حراكها الاحتجاجي وتبلور مطالبها..وهذا ما حدث فعلا في المحافظات الجنوبية.
وبما أن الطرف المنتصر أشعل حرب 1994 باسم الوحدة، ونكل بشركاء الوحدة باسم الوحدة، وهيج الرأي العام في الشمال تحت شعار الوحدة،  وانتصر تحت شعار الوحدة،وفعل ما فعله في الجنوب تحت شعار الوحدة،فقد تحولتالوحدة إلى رايةلتخوين أي نقد سياسي يأتي من النخب مهما كانت موضوعيته،ولقمع كل شكل من أشكالالاحتجاج الجماهيريمهما كانت سلميته..وبهذه الطريقة كان المنتصر يمعن في توجيه الطعنات إلى جسد الوحدة المثخن أساسا بجروح الحرب..وقد أدى هذا كله إلى تآكل تدريجيلشرعية وحدة 22 مايو 1990 عند فئات واسعة من أبناء الجنوب،الأمر الذي أضعف النخب المطالبة بتصحيح مسار الوحدة واستعادة دولتها وقوى النخب المطالبةباستعادة الدولةومكنهامنتحريكالشارعالجنوبي في الإتجاه الذي تريد..وقدخلق هذاإصطفافا جماهيريا واسعا في الجنوبتحت راية فكالإرتباط بنظام الجمهورية العربية اليمنية وليس بدولة الوحدة التي لم يعد لها وجود من الناحية الواقعية.
الطابع الوطني العام للقضية الجنوبية وملابسات التسمية:
بناء على التمييز بن جذرين للقضية الجنوبية يلاحظ أن الجذر العام المفسر لطابعها السياسي يتسم بالعمومية اليمنية والخصوصية الجنوبية..فحرب 1994 كانت هزيمة لليمن برمته..لكن وقع هذه الهزيمة على الجنوب كان مضاعفا وموجعا على نحو خاص..فهو يشترك مع الشمال في أوجاع خسارة المشروع الوطني ممثلا بدولة الوحدة، لكنه ينفرد بأوجاع خسارة دولته وما ترتب على ذلك من نتائج ألقت بظلالها الكثيفة على حياة الإنسان العادي..ومن هنا جاءت ملابسات التسمية التي ركزت على الأوجاع الخاصة وأهملت الأوجاع العامة فأضفت على القضية طابعا جهويا وأخفت طابعها الوطني العام..وقد صادفت هذه التسمية منذ البداية هوى لدى الطرف المنتصر في حرب 1994 فسوقها على أنها ضد الوحدة وليس ضد همجية نظامه السياسي الذي يتصرف في الجنوب كما يتصرف الغزاة البرابرة..وقد استطاع لوقت طويل أن يخدع معظم الرأي العام في الشمال بخطاب اختلطت فيه السياسة بالدين وراجت فيه شعارات من قبيل "الوحدة فريضة إسلامية" و"الوحدة المعمدة بالدم" وغير ذلك من الشعارات التي دلت دلالة قاطعة على أن حرب 1994 قد أصابت الوحدة اليمنية في مقتل وأنها أكثر الحروب الداخلية قذارة ووضاعة وخسة في تاريخ اليمن.
أما النخب التي نحتت هذه التسمية فقد أرادت بها ضمان الحشد والجمهرة لأبناء المحافظات الجنوبية على النحو الذي لا يفرق بينالجنوبي الذي شارك في حرب 1994 واستفاد منها ومن نتائجها والجنوبي الذي اكتوى بنارها وطحنت نتائجها حياته..فالأول، في نظر هذه النخب، قاتل ضد الحزب الإشتراكي وليس ضد وطنه الجنوب، والثاني لم يقاتل مع الحزب الإشتراكي وإنما دافع عن وطنه الجنوب..أما الشمالي فقد جرى فرزه على أساس أنه إما مقاتل ضد الجنوب وليس ضد الحزب الإشتراكي أو مدافع عن الحزب الإشتراكي وليس عن الجنوب..وبهذه الطريقة جرى تصوير الحرب على أنها بين جهتين في الجغرافيا وليس بين اتجاهين في السياسة..وهذا فرز غريب لا يعبر عن حقيقة ما جرى في الواقع،ولايقبل به لا عقل ولا منطق..فالحرب كانت ضد المشروع الوطني ممثلا ببناء دولة الوحدة..أما الحزب الإشتراكي اليمني فليس إلا الحامل السياسي لهذا المشروع..وعلى هذا الأساس كانت الحرب ضده باعتباره اتجاها في السياسة..والذي حرك هذه الحرب هو القوى التقليدية ممثلة بثلاث فئات هي كبار قادة الجيش وأصحاب السطوة داخله،وأصحاب النفوذ من كبار شيوخ القبيلة،وكبار رجال الدين الملتصقين بالنظام..لكن ما كان بمقدورها أن تذهب إلى الحرب وتخدع الرأي العام من غير تحالف عريض من الشمال والجنوب اتسع ليشمل حتى الجهاديين والأفغان العرب.
وبالنظر إلى التحالف العريض الذي خاض حرب 1994 وامتد من الشمال إلى الحنوب تبدو تسميةالقضية الجنوبية تسمية إنتقائيةأعلنت عن أشياء وسكتت عن أشياء..وبغض النظر عما إذا كان هذا السكوت حاضرا في الوعي أو متواريا في اللاوعي إلا أنه من الناحية العملية يجعلمن القضية الجنوبية إشكالية غامضة ويقلص مساحة الإعتراف بعدالتها ويضاعف من صعوبات حلها حلا عادلا وحاسما، فضلا عما يتضمنه من تقزيم لتاريخ الجنوب باعتباره الحامل الرئيس للقضية الوطنية اليمنية الذي تحمل أعباء النضال من أجل تحقيق الوحدة اليمنية وأوصل اليمنيين إلى 22 مايو 1990..كما أن هذا السكوت يعرض التاريخ الوطني المجيدللجنوب للتشويه والمصادرة، ويحول بين الجنوب وبين قدرته على انتزاع الإدانة الدامغة لحرب 1994 والانتصار عليها سياسيا وأخلاقياعبر الحوار الوطني الشاملوعلى النحو الذييعيده إلى وضعه الطبيعي كشريك حقيقي وفاعل في المعادلة الوطنية وصياغة مستقبل اليمن.
................................................................................
1 -  عندما ساءت العلاقة بين الجبهة القومية وقيادة القوات المصرية في اليمن أصبحت حركة القوميين العرب فرع الشمال هي مصدر دعم الجبهة القومية..وكان للحركة حضور كبير وقوي في جيش سبتمبر..والجبهة القومية هي من الناحية العملية حركة القوميين العرب فرع الجنوب..وكان للفرعين قيادة واحدة موحدة برئاسة المؤسس فيصل عبد اللطيف الشعبي..
2 – قامت الوحدة على التكافؤ بين الشمال والجنوب..وهذا موضوع يحتاج بيانه إلى ورقة خاصة.
3 – الأسس التي قامت عليها الوحدة هي الشراكة والديمقراطية والإصلاح والتحالف..وهذا يحتاج بيانه إلى ورقة خاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق