2013/05/07

رؤى الأفراد: بلقيس اللهبي-القضية الجنوبية



 أولا: مقدمة:
بلقيس اللهبي - عضو مؤتمر الحوار
تعدد الرؤى والتوجهات الفكرية في قضية وطنية سياسية تعتبر هي عصب الحل، هو من أهم ملامح الحوار الوطني بقصد الوصول لصيغة وطن يمتلكه أبناءه ويقومون به، بعيدا عن حكم عصبة أو توجه أو فئة، وهذه القضية من شأنها أن تحدد هوية الدولة القادمة وشكلها، ومن هنا ارتأيت أن أضع هذه الرؤية بين أيديكم كطرف مستقل لا تثقله أي حسابات ماضوية ولا مصالح حالية ولا تطلعات مستقبلية، سوى لوطن تحكمه مؤسسات كفئة ويتمتع كافة أبنائه بحقوق متساوية في ظل سيادة للقانون، يحترم الفرد ويعترف بالهويات والحريات الخاصة. وقد تكون الورقة طويلة ولكن هذا النوع من القضايا سرعان ما تتحول النتائج ذاتها إلى جذور تقوي من رسوخها، ولا تظهر على السطح إلا النتائج الأخيرة التي مع الوقت تغرز في التربة منظمة لما سبقها من الجذور، لذا كلما أسرعنا بالحل كلما قلة كلفة اقتلاع جذور تترسخ في أرضها مع مرور الوقت.
وتتراوح القضية الجنوبية بين أزمة هوية بتغييب تراث دولة بأكملها وتحقيره، وأزمة مواطنه بغياب الدولة، باستحواذ نخب تغلب عليهم عصبوية المصالح الفاسدة على ثروات ومقدرات الجنوب، و لسوء الحظ أن معظمهم من الشمال.
هذه الرؤية بما أوردته من أسماء وهيئات لا تقصد التجريم أو التبرير لأي منها، بل هي رغبة لتحميل كافة الأطراف مسئوليتها في سبيل التقييم والتقويم للأداء، للتحول إلى مؤسسات وطنية تعمل في البناء وتقف سدا أمام الهدم.كما أنها قررت المرور على صراعات ما قبل دولة الوحدة، لنقاشها حول جذور القضية الجنوبية ظنا منها بان جزء هام من الفاعلين في هذه القضية الآن هم ذاتهم الذين كانوا فاعلين في الجنوب آنذاك وان الصراعات التي قد تظهر فيه وعليه هي امتدادا لصراعاتهم.كما حاولت الرؤية التجذير للقضية خارج وداخل إطارها الحالي (الوحدة)، وبمعزل عن مستقبل الدولة (وحدة/انفصال). لحتمية عودتها للظهور في أي إطار ما لم تتم معالجتها.
وهو جهد فردي يحتمل الخطأ والصواب في ظل قلة الجهد والمصادر وضبابية المواقف والحقائق. فما كان منه صوابا أتمنى أن تأخذوا به وما كان منه خطأ أرجو أن تقوموه وتصوبوه. كما أنها تحمل خبرتي الحقوقية والسياسية المتواضعة.
المنهجية:
تعتمد هذه الورقة التقسيم لحقبتين زمنتين هما: 1990- 1994 و1994 – 2013، وتوطئة عن تاريخ غير محدد الزمن وتمر سريعا بفترة قيام الحكم الجمهوري في الشطرين إلى قيام الوحدة (1962-1990). وتحاول أن تغطي كافة الأبعاد للقضية: السياسية والقانونية والحقوقية واقتصادية و الثقافية و الاجتماعية. وتستعرض بعض الأحداث الوقائع (الجذور) لهذه الفترات، مع أعطاء أمثلة وشواهد بسيطة، وتذكر الأطراف والقوى السياسية الفاعلة مؤسسات (تشريعية، وتنفيذية) في كل مرحلة وعن كل حدث ما أمكن ذلك.

ثانيا: المضمون
توطئة تاريخية:
الهوية القومية لم تترسخ إلا بدولة مركزية لفترات طويلة وتطابقت فيها حدود الدولة مع حدود الهوية كما هو الحال في مصر أو فرنسا.
عرف هذا الجزء الجغرافي من جنوب شبه جزيرة العرب تاريخيا باليمن وحكم لقرون من قبل دويلات وسلطنات ومشيخات تزامنت وتعاقبت، ولم يكن دولة موحده، واتسم بعدم الاستقرار السياسي بظهور دولة واختفاء أخرى وتوسع هذه على حساب تلك، وكانت هذه الدويلات قائمة على هويات عصبوية سلطوية، وحتى تلك التي قامت على أساس مذهبي اعتمدت على التحالف مع هذه العصبيات للحماية مقابل النفوذ للسلطة و المال. وفي محطات تاريخية متعددة عند ضعف  الدولة يعود اليمنيون لهوياتهم الأصلية الصغيرة طلبا للحماية، هذه التجمعات قائمة على " العرف".
وعليه فما يطرح حول الوحدة اليمنية الشاملة الكاملة بدولة تحكم أراضيها من حدود نجران شمالا إلى رأس ألعاره وسقطرة جنوبا، من المهرة شرقا إلى البحر الأحمر غربا، هو محض تاريخ قديم حدث قبل الإسلام ولفترات قصيرة بعده، كما لا يمكن القول بوجود كيانين سياسيين في هذه المنطقة هما اليمن والجنوب العربي، فما يطلق عليه اليمن " وهو الأقدم" هو كل هذه المنطقة "نسبة إلى موقعها من الحجاز"،  و ما يطلق علية الجنوب العربي " وهو الأحدث" هو كل ما يقع جنوب الجزيرة العربية تقريبا.وهذا لا يقوض مشروعية حلم اليمنيين كأمة تربطها عوامل التاريخ والجغرافيا بتقوية العوامل المشتركة لخلق كيان سياسي موحد بصيغة أو بأخرى على مساحة جغرافية تعتبر ثروة في تنوعها أرضا وإنسانا.
لم يبارح حلم الدولة الواحدة مخيلة اليمنيين شمالا وجنوبا، فبعد تسلم الإمام يحيى حميد الدين في صنعاء للحكم من العثمانيين كحاكم "للشمال"، وبقيام  " المملكة المتوكلية الهاشمية"، تقاطرت وفود وجهاء "الجنوب" بما فيهم علماء حضرموت لمبايعة الإمام كاعتراف وتوق للهوية الموحدة، بعيدا عن فكرة الضم والالتحاق والإلحاق بل بحثا عن الاتحاد بمواجهة الاستعمار الأجنبي الذي اجتاح المنطقة العربية والعالم، ولكن الإمام لم يكن بوضع يؤهله لمواجهة قوة التاج البريطاني، الذي كان قد بدء بالتغلغل في هذا الجزء من اليمن.
اليمن الجمهوري:
ستمر هذه الورقة سريعا على حقبة ما قبل  تسعينات القرن الماضي ولن تدخل في عمق الصراع فيها، ليس تقليلا من أهميته بل محاولة للتركيز على الفترة الأكثر قربا وتأثيرا على واقعنا الآن.
حركة التحرر العربي في الخمسينات والستينات، ذات التوجه القومي العربي الباذخ الطموح، كان لها تأثيرها على من قاموا بثورة 26سبتمبر 1962م الذين بدء كفاحهم مع رفاقهم المناضلين لطرد الاستعمار البريطاني من ارض "الجنوب" في عدن، فكان طرد المستعمر وإقامة دولة موحدة على كامل ارض "الجنوب"/"اليمن" حلم ورد كأحد أهدف الثورة. لكن بعض أبناء "الجنوب" كانوا يستشفون من ذلك مفهوم عودة الفرع إلى ألأصل وما يصاحبه من ضم وإلحاق، مع مراجعة ما ورد في مذكرات وتصريحات لعدد من القادة الشماليين، نجد تحفظ بعضهم على الاعتراف بقيام دولة مستقلة على ارض الجنوب 1967، و اتجهوا للتسليم بها نظرا لانشغالهم بجبهة صراع مع الملكية التي كانت تحاصر عاصمتهم، وكأن لو لم يكونوا منشغلين كانوا حاربوا لاسترداد هذا الفرع.
ظهر الصراع بين التحالف القبلي العسكري و الاتجاه القومي اليساري في الشمال. و قامت قيادة الجنوب بدعم حركة تمرد واسعة في المناطق الوسطى الشمالية فترة السبعينات لإسقاط نظام صنعاء عميلا للامبريالية الغربية، وضم الشمال إلى الجنوب في كيان يساري واحد ما يقع أيضا ضمن فكرة الضم والإلحاق. [1]
لأسباب سياسية وأيدلوجية، كان هناك في الجنوب والشمال من يتجهون إلى وحدة فورية، ومن يخشون منها، ومن كان يتمنى أن تتم بالتراضي ومن يتوق لفرضها أو منعها بكل الوسائل حتى العنفية منها.
وخاض الجنوب مواجهات لم تخلو من العنف بأقسى أشكاله لفرض وحدة أراضيه التي أعلنت عليها دولته (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، ولا يمكن في خضم كل المشاعر القومية الوحدوية أن نتجاهل أنين أبناء حضرموت تلك البقعة التي تميزت على مرور الأزمان باسم وهوية في  جغرافية واضحة ومحددة ولم تتحد مع غيرها من الجغرافيات إلا فيما ندر، هذا الأنين النابع من دموية السحل ولا إنسانية الإخفاء ووجع التغريب والتشريد وقهر المصادرة والتأميم حتى للأفكار والمعتقدات، تحت تبريرات من الرؤى الاشتراكية التي كان لها عظمتها والقها في سياقها التاريخي.وهذا الأنين مازال يسمع حتى الآن بل زاد ارتفاعه لتفاقم الظلم، وكانت خيبة أمله كبيرة بعد تحقيق الحلم بـ(الجمهورية اليمنية) التسعينية المولد.
كما لا ينكر احد الإقصاء ووجبات الدم المتتالية التي عانى منها الجنوب بتهم مختلفة مبنية على الاختلاف في الرأي و مناهج العمل واتخذت التخوين عنونا لها ، وأضعفت من قوى الجنوب وأثرت على كفاءة إدارته للدولة وقوضت من إمكاناته وبددت موارده وشتت وشردت الكثير من أبناءه، وتركت ثارات عديدة بينهم. ولم تكن أحداث 86 آخر مشاهد الإقصاء[2].
الجمهورية اليمنية 1990-2013:
في نهاية ثمانينات القرن الماضي شهد العالم حدث غير في خارطة القوى العالمية واثر على توازن العديد من مجرياته، هذا الحدث هو انتهاء الحرب الباردة وبدء تفكك الاتحاد السوفيتي ما أوقف المساعدات التي كانت ميزانية (ج.ي.د.ش)[3] تعتمد عليها، وكان لهذا التطور الأثر في الدفع باتجاه الوحدة، مع عدم التجني بتجريدها من أسبابها الوطنية واستجابتها لحلم غالبية اليمنيين شمالا وجنوبا.
اتجه الجنوب والشمال بخفة لا تحتمل وبسرعة شديدة إلى الوحدة بين دولتين تتباين أنظمتهما السياسية والاقتصادية والثقافية، وتتمايز أوضاعهما الاجتماعية. عندما قدم وفد (ج.ع.ي)[4] في نوفمبر 1989 إلى عدن برئاسة رئيس الجمهورية حينها علي عبدالله صالح بمشروع وحدة فيدرالية بالتدريج، التقى هناك بقيادات (ج.ي.د.ش) بقيادة علي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني ورئيس مجلس الرئاسة حيدر أبو بكر العطاس الذين طرحوا مشروع الوحدة الاندماجية الفورية، فجنب القائد الشمالي مشروعه، وقبل بالمشروع الأقل كلفة المقدم له.
في 22 مايو 1990م تم التوقيع على اتفاقية من صفحتين فقط ولم تتكئ إلى نتائج مشاريع ومفاوضات للوحدة بين الشطرين امتدت ما يقرب من العقدين وبضعة سنوات، ولم تلتفت إلى تباين وتمايزات للنظامين، بل صيغت على عجالة، يعزوها البعض للانتهازية السياسية، ويعزوها البعض للعاطفية المشبعة بالحلم الوحدوي.. ورفع علم جديد معلنا وحدة شطري اليمن، و علي عبدالله صالح رئيسا وعلي سالم البيض نائبا للرئيس، وحيدر ابو بكر العطاس رئيسا للوزراء، والوزراء مناصفة بين الجانبين، مجلس نواب جمع مجلسي الشورى والشعب، بعدد 301 فيه 11 امرأة قادمات من الجنوب، يرأسه الدكتور ياسين سعيد، والجيش بقيادة وزير الدفاع هيثم قاسم، يحيى المتوكل وزيرا للداخلية. كان هذا هو قوام من يمكن أن نقول أنهم تولوا مسئولية الثلاث السنوات الأولى للوحدة، و هناك مراكز قوى أخرى أفرادا وجماعات كانت ذات تأثير ربما اشد.
لم يخلوا هذا الحدث من اختلال قانوني، ابتداء من الصفة التي حملها الموقعين عليه، وقع عليها علي عبد الله صالح على يسار الوثيقة مرفق بصفة رئيس الجمهورية، وعلي سالم البيض على يمين الوثيقة مرفق بصفة الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني مما يوحي بضم مسبق للبلدين.
لم تكن لوثيقة الوحدة ملاحق توضح آليات ضامنة، تحدد نظام الحكم الذي تم اعتماد التعددية فيه، ونسبة تمثيل الشمال والجنوب في هيئاته المنتخبة والمعينة، خاصة في ظل الفارق الديمغرافي.
ولم تقدم خطة واضحة لتأهيل المواطن الجنوبي الذي عاش في ظل (الاقتصاد الموجه) لكي يتمكن من المنافسة في اقتصاد السوق الذي تبنته دولة الوحدة، المواطن الجنوبي لم يكن لدية خبرة المواطن الشمالي في التعامل في إطار اقتصاد السوق ولم يكن لديه رأس المال ولا شبكة العلاقات التي تمكنه من النجاح، ما جعله مواطنا من الدرجة الثانية في المجال الاقتصادي.
ولم ينل دمج الجيش العناية الكفاية والإجراءات الضامنة للدمج مع استيعاب فارق الحرفية في التوزيع والقيادة والقوى، وهذا ينطبق على الأمن أيضا.
شنت معركة إعلامية عبر المنابر المجتمعية على دستور الوحدة، وكان التلفزيون الرسمي في الشمال احد هذه المنابر، إلا انه تم التصويت بنعم لهذا الدستور شمالا وجنوبا نهاية السنه الأولى من الوحدة، ما يعد حجة على من يقول بانعدام شرعيتها (الوحدة) لعدم الاستفتاء عليها، هذا الدستور الذي سيتم الارتداد عنه لاحقا بعد حرب 1994م، ويتم تعديله تباعا ليتغير جوهرا ومظهرا.
وكمواكبة لمتطلب التعددية الحزبية، تفاهم الرئيس علي عبد الله صالح مع شيخ قبيلته/ عبدالله بن حسين الأحمر، لتكوين حزب يكون رديف لحزبه " المؤتمر الشعبي العام"، فتم إنشاء التجمع اليمني للإصلاح، في تركيبة مشابهة لحزب المؤتمر الشعبي العام، تضم القوى القبلية والعسكرية والدينية، وغلب عليه الطابع الأيدلوجي اليميني بضمة جماعة الإخوان المسلمين السرية وأعضاء الجبهة الإسلامية، وأطياف من الاتجاه الوهابي و السلفي، وفُهم أن تكوين هذا الحزب كان لمواجهة اليسار الممثل بالحزب الاشتراكي اليمني، وهي خطوة يدلل بها البعض الى عدم صفاء النوايا. وليس بالضرورة أن تكون هذه هي دوافع المنتمين لهذا الحزب خاصة جماعة الأخوان المسلمين.
الوحدة غير المدروسة من الجانبين وخاصة الجانب الجنوبي الممثل بالحزب الاشتراكي اليمني، لم تستمر طويلا دون أن تظهر عليها عوارض أزمة، حيث لم يمر عام إلا وقد ظهر عوار التسرع وعدم الدراسة. فرغم انه تم الاتفاق بشكل أو بأخر على اقتسام أو محاصة الجيش 50% بـ50% بين الجانبين، وكذا مقاعد البرلمان، إلا انه كانت هناك مقاومة لدمج الجيش واتفاق التحاصص.(يقدر ضابط جنوبي أن تعداد الجيش الجنوبي بلغ 64,000 عند الوحدة، رغم أن الجيش الشمالي كان يقدر بـ200,000،إلا أن العدد الفعلي اقل من ذلك بكثير بالنظر إلى وجود ما يسمى بالجنود الأشباح)[5]، ناهيك عن إشكالية الجيش النازح من الجنوب اثر أحداث يناير 86 والذي كان متواجد بكامل قوامه وقياداته ولم يشف من جراحاته، وكانت عديد من قياداته قد أسست مصالح لها في الشمال وتحالفت مع بعض قادة جيشه البارزين خاصة اللواء علي محسن الأحمر.
فيما أقرت الوحدة أن يؤخذ بالقوانين الفضلى بين الشطرين، لم يوضع أي تعريف في الاتفاقية، و لم يستند إلى تعريف دولي يوضح معني الفضلى أو الأفضل، ما افرغ النص من محتواه.
بــدء الأزمــة .. تمــهيدا ودخــولا إلى حــرب صـيــف 1994:
في 20 سبتمبر 1991م، سقط الشهيد حسن الحريبي في حادث اغتيال نجا منه المرحوم عمر الجاوي، عضوي الحزب الاشتراكي اليمني (سابقا)، فيما شهد 17 مارس 1992م اغتيال احد أعضاء الحزب الاشتراكي بتعز، وتوالت بعدها عمليات اغتيال ومحاولات اغتيال منظمة لأعضاء الحزب الاشتراكي اليمني، كان من ضحاياها ابن أخت علي سالم البيض واخو حيدر العطاس، ومحاولة اغتيال عبد الواسع سلام. كما تعرضت منازل الدكتور ياسين سعيد نعمان وعبد الرحمن الجفري وسالم صالح وعدنان سالم البيض لاعتداءات مختلفة. هذه الاغتيالات والاعتداءات.. ألم تنبه شريك الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني إلى بدء زحزحته من المشهد السياسي، وعدم معاملته على قدم الشراكة قبل تثبيت حقوق الجنوب القائمة على العدالة في الأرض وارث الدولة؟!! مالا يعفيه من مسئولية ما ترتب على هذه الإزاحة.
وبما لا يقل أهمية عن ذلك سقوط قانون الأسرة (لدولة الجنوب) الذي كان يصنف الأفضل عربيا عام92 في تفاوض (دينسياسي) لصالح قانون التعليم (لدولة الجنوب) الذي سيسقط من تلقاء نفسه كأحد خسائر حرب (94) في برلمان عام 1997م. ولان النساء هن عورة المجتمع كن أيضا عورة السياسة، وتم التكالب من اجل تمرير هذا السقوط دون صوت، امتدادا لمجابهة ما يطلق عليه "التحرر" لنساء الجنوب كـ"مسبة" روج لها النظام في الشمال طوال عقود الصراع الشمالي الجنوبي. واستمر التعامل بها مع المجتمع الجنوبي فيما بعد.
27 ابريل 1993 تمت أول انتخابات تعدديه في دولة الوحدة، متجاهلة تمثيل الجنوب تمثيلا عادلا لا "متساويا" مراعاة للفارق الديمغرافي، حاز الحزب الاشتراكي على 56مقعدا كلها في الجنوب، فيما حصل المؤتمر الشعبي العام على122 وحصل التجمع اليمني للإصلاح (الحزب الجديد) على63. والتأم مجلس النواب بعضوية امرأتين، وبائتلاف ثلاثي من الأحزاب أنفة الذكر، ما عكس التعديل على شكل الرئاسة لتتكون من مجلس رئاسة خماسي من ذلك الائتلاف. في أغسطس 1993م صعد نائب الرئيس علي سالم البيض الأزمة بالاعتكاف في عدن احتجاجا على نتائج هذه الانتخابات.
ثم جاءت وثيقة العهد والاتفاق في فبراير 1994، يوم التوقيع ألقت أطراف ائتلاف السلطة كلمات برتوكوليه سياسية، و ألقى علي سالم البيض كلمة محملة بالعاطفة وأبدى استبشاره للجوء اليمنيين للحوار بدلا من البنادق، وتعهد بان يستفيد من دروس المرحلة، إلا انه عاد من عمان (الأردن) إلى الرياض (السعودية) ثم إلى عدن.
في هذه الأثناء كان مسلسل اغتيالات لاعضاء الحزب الاشتراكي اليمني مستمرا[6]، وخسر من أعضائه 155 عضو، وكانت هناك إشارات إلى تورط جهاديين في هذه الاغتيالات.
قضى الاتفاق أن تٌضمن مواد وثيقة العهد والاتفاق في الدستور خلال من 3- 6 أشهر، فلم يبذل طرفي الاتفاقية جهدا في ذلك بل أعلنت حرب في مدة لم تتجاوز ثلاثة أشهر. يشار إلى خطاب صالح في ميدان السبعين في 27ابريل 1994م بخطاب إعلان الحرب على شريكه في الوحدة ونائبه، في معقل اعتكافه عدن عاصمة الدولة التي كانت ذات كيان مستقل قبل ثلاث سنوات فقط. وبدأت الحرب فعلا بعد الخطاب بساعات في ذمار شمال صنعاء، فيما انفجر الوضع تماما في عمران في 4 مايو 94م. كانت الحرب بين أطراف الائتلاف الحاكم ( المؤتمر الشعبي العام و التجمع اليمني للإصلاح ضد الحزب الاشتراكي اليمني).
بعد عودة كثير من المسئولين الجنوبيين إلى عدن، منهم رئيس الوزراء الذي تولى مهامه كقائم بالأعمال حسن مكي وتركها في 28 ابريل 1994، بعد اعتداء تعرض له من قبل الشيخ ناجي عبد العزيز الشائف. ثم جاء محمد سعيد العطار خلفا لمكي.
في غمار الحرب التي قامت على مستوى الوطن، أعلن علي سالم البيض من المكلا، استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية كدولة مستقلة على ارض الجنوب، ما افقده تعاطف الوحدويين شمالا وجنوبا، والذي لم يكن قد خسره طيلة المواجهة. في الشارع الشمالي كانت بعض القبائل قد أعلنت انحيازها له وحمايتها لعدد من ألوية الجيش الجنوبية (مع الإشارة أن هذا الانحياز قد يأتي في إطار الصراع الشمالي الشمالي).
 7 يوليو 1994م تاريخ سيظل ينكأ ذاكرة الجنوب ويؤجج جراحه ففيه حسمت الحرب لصالح النظام في صنعاء بأيدي جيش نظامي قاده شماليون وعدد من قادة الجيش الجنوبي ( ألوية الوحدة)[7]، وكذا خليط من تكوينات قبلية وجهادية، واصطلح على مكتسحي الجنوب اسم الفاتحين. في حين يرى البعض أن الدافع لعديد من مكونات وأفراد هذا الفتح هو الحفاظ على الوحدة سواء من منظور وطني أو ديني، ويرى البعض أن الجنوبيين المشاركين كانت خياراتهم ضيقة أن يستعيدوا وطنهم أو يبعدوا عنه للأبد. خاصة في ظل ثقافة الإقصاء التي اعتمدتها النخب الحاكمة في الجنوب وأصبحت ثقافة سياسية ألقت بظلالها على العلاقات عامة في الجنوب. و مازال الشارع الجنوبي يصر على أن الجموع اقتحمت عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية مدججة بالفتاوى السياسية لحزب الإصلاح، ومازال الإصلاح ينكر.
هذه الحرب أزاحت الشراكة و الطوعية في الوحدة تماما وعمدتها بالدم. مكرسة مفهوم الوحدة آو الموت.
ما بعد 1994 إلى 2013م:
سيـــاســيـــــا:
خرج الحزب الاشتراكي من ائتلاف السلطة ولم يعد الحاكم بحاجة لمجلس رئاسة واكتفى بعد زمن بنائب للرئيس، واختار لذلك وزير دفاعه في الحرب عبدربه منصور هادي. قاطع الحزب الاشتراكي انتخابات 1997م احتجاجا على حرب 94 وما نتج عنها من أثار اقلها الاستيلاء على مقراته، كون المؤتمر والتجمع اليمني للإصلاح أئتلاف خاضا به هذه الانتخابات، وعدلا دستور الوحدة ما حلا لهما ذلك. وفي هذه الانتخابات صدر صالح نجله "احمد" إلى الحياة السياسية وبدء بتهديد حلفه القبلي والعائلي والمناطقي.
إلا أن الحزب الاشتراكي بقيادة صالح عباد "مقبل" عاد للفعل السياسي بتحالف جديد معارض هو (مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة) عام 1999م، ضم بالإضافة له: التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي، وحزب الحق، واتحاد القوى الشعبية اليمنية. كما كان للحزب موقفا معارضا للتعديلات الدستورية 2000م التي عززت هيمنة الرئيس ومدت مدة حكمة من خمس إلى سبع سنوات.
الانتخابات الرئاسية 1999م وصفت بالصورية، كرس فيها النظام رمزية وصورية الحضور الجنوبي بمنافسة مسرحية وهزلية لمرشح الرئاسة المنافس (نجيب قحطان الشعبي)،  وأكدت انتصار وتفوق صالح في مواجهة الجنوب سياسيا، بعد هذه الانتخابات وصل النظام لمرحلة من الانتشاء بالفردية، ورغم أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس التجمع اليمني للإصلاح لم يتراجع عن دعمه لصالح، إلا أن هناك سحابة توتر كانت تتراكم، قد يكون مردها هو بدء صالح في مشروع توريث الحكم لابنه احمد.
وشهد مطلع الألفية الثانية تقارب بين التجمع اليمني للإصلاح وتحالف المعارضة، في خطة لخلق تحالف اكبر سمي بـ(اللقاء المشترك)، كان مهندسها "جار الله عمر" الأمين العام المساعد للحزب، ولكن الحزب مني بضربة أخرى على يد المتشددين المنتمين للإسلام المسيس، عقب فتاوى تكفير وتحريض للقتل لمجموعة من الأدباء والسياسيين وردت أسمائهم في قائمة على رأسها جارالله عمر، وتم اغتياله في افتتاح مؤتمر عام للتجمع اليمني للإصلاح في ديسمبر 2002م.
دخل (اللقاء المشترك لأحزاب المعارضة) انتخابات 2003بتعهد أن لا يواجه احدهم الأخر في دائرته التي يمثلها في مجلس نواب 1997م، مع مراعاة وضع الاشتراكي المقاطع لها، ما أسس لبقاء بقية أحزاب المعارضة في مراكزها شمالا وجنوبا وعلى رأسها الإصلاح (الذي انتقل الى كرسي المعارضة)، ووقف الاشتراكي موقفا تفاوضي. واستمر هذا التحالف يسير شئون المعارضة بمواجهة المؤتمر الشعبي ذي الأغلبية المريحة في البرلمان[8]، مرورا بأزمات متعددة أهمها انتخابات 2006م الرئاسية، ثم التمديد للبرلمان عامين نظرا لعدم الاتفاق على الانتخابات وقانونها، و خاضت احزاب المعارضة معا ثورة الشباب السلمية الشعبية، واختطوا مع المؤتمر الشعبي وحلفائه بتوقيعاتهم خارطة الطريق للمبادرة الخليجية واليتها المزمنة نوفمبر 2011م ، وتحاصص الموقعون حكومة وفاق وإدارة مرحلة انتقالية بقيادة الرئيس المنتخب عبدربه منصور هادي الذي انتخب كمرشح توافقي ووحيد في فبراير 2012م.
الأزمة التي ظهرت أوائل الألفية الثانية، لم تقتصر على الأحزاب بل امتدت لأواصر صالح القبلية سواء في (سنحان) أو في (حاشد)، فبعد وفاة الشيخ/ عبدالله بن حسين الاحمر، برز حميد الأحمر كأشد المعارضين لصالح، واهتزت علاقة صالح مع حليفه التاريخي علي محسن الأحمر بعد حروب ست في صعده. و امتدت أيدي هذا الصراع لخلق ولاءات في أوساط الحركات الاحتجاجية في الجنوب، كما اتضح في ثورة الشباب 2011م.
ظل الحزب الاشتراكي اليمني هو الحامل الرئيس لقضية الجنوب، وظلت كل القوى (الزعامات) الجنوبية في الخارج في الظل لفترة من الزمن بعد 94، و ظهرت كيانات سياسية في المهجر وكان لها صداها في الداخل مثل المجلس الوطني الجنوبي "موج" في يوليو 1994م، و التجمع الديمقراطي الجنوبي "تاج" الذي أسس في ابريل 2003م وأشهر في يوليو 2004م، لم تؤسس عمق جماهيري كبير ربما لبعدها عن الوطن وكذا للملاحقات الامنية الواسعة التي نالت المنتمين فيه،أما حركة تقرير المصير "حتم" المسلحة 1997م فظهرت في الضالع وأعلنت عن تبنيها لبعض العمليات المسلحة ثم اخفتت لتعلن عن معاودتها للكفاح المسلح في يوليو 2011م.
حــقـــــوقيــــــــا:
منذ قيام الوحدة بدء الاجتياح الاقتصادي على ارض الجنوب بتوزيع الـ(بقع)، وتفاقم بعد الحرب بالاستيلاء وتوزيع عدد غير يسير من المؤسسات والهيئات والمنشئات العامة، وكذا مقرات مؤسسات المجتمع المدني وما تحتويه، و مساكن القادة المنهزمين في الحرب.
وحملت الفترة من 1994 إلى 1999 إعلان عديد من القوانين والقرارات[9] التي حاولت التغطية على النهب السابق الذكر، تحت مبرر عدم كفاءة هذه المؤسسات[10]، متجاهلة أن احد أسباب انعدام الكفاءة الانتقال إلى سياسة الاقتصاد الحر بدون تمرحل يعزز من قدرتها على المنافسة. و مهما كانت ضرورة هذه الإجراءات كان يجب إن تشترط  وتلتزم بإيجاد حلول عادلة للعاملين في هذه المنشئات، حيث فقد الكثير منهم عمله ومصدر رزقه، وأحيل عددا أخر إلى صندوق الخدمة المدنية. وبهذا تمت خصخصة كافة المنشئات والمؤسسات التابعة للدولة وبيع أصولها المنقولة، فيما تعرضت الأصول الثابتة للبيع والتأجير وإعادة بعض الممتلكات مؤممة  لمن أممت منهم، وتم البيع والتأجير بمبالغ لا تصدق لزهدها، ناهيك عن أن منها ما لم يعرف مصيره.
فيما توحي عددا من أسماء المستأجرين والشارين من الظاهر أو الباطن إلى تحاصص بين قوى الفاتحين ممن ينتمون إلى تحالف السلطة والنفوذ من دائرة الموالاة لم تخلوا من جنوبيين.
وعلى سبيل الاستشهاد نورد بعض المثال:
- خصخصة عدد من المؤسسات الإستراتيجية بشكل يشوبه الغموض مثل صوامع الغلال في منطقة كالتكس بمدينة عدن.
-  64  مليون ريال ثمنا لبيع مصنع زيوت المنصورة  وتأجير أرضيته البالغة 44080 متر مربع بمبلغ 40 ريال سنويا للمتر المربع الواحد في السنة ولمدة 30 سنه.
- المؤسسة العامة للدواجن لم يعرف مصير معداتها وأراضيها.
- اختفت بهذه الخصخصة منشئات ثقافية مثل المسارح والسينما والنوادي وغيرها ولم تقم الدولة بدورها بحفظ الإرث الثقافي والتاريخي.
- وتمليك مبان كان لها ميراث تاريخي وطمس هويتها الثقافية و قيمتها التاريخية.
وكان لتسريح ألاف من المدنيين والعسكريين عقب حرب 94م، أثره على حياتهم الاقتصادية والاجتماعية ، وإذكاء روح الكراهية والبغضاء لكل ماله علاقة بالشمال أرضا وتاريخا وإنسانا.
وما فاقم شعور أبناء الجنوب بالضيم الاقتصادي، أن نسبة 60% من نفط الجمهورية اليمنية ينتج من أراض الجنوب، فيما لم تحدث إي نهضة اقتصادية توفر لأبنائه مصادر للدخل وتمكنهم من الحياة بكرامة، وتركزت الوظائف والشركات وغيرها في صنعاء في أيد نخب من دائرة الموالاة للحاكم، تأجير ميناء عدن[11] بمحاصصة غير مدروسة وبأسعار زهيدة ما دمر الميناء واضر باقتصاد مدينة عدن والاقتصاد الوطني.
أما على صعيد الهوية[12] فقد تم تغيير أسماء عدد من الشوارع والمدارس ما اثر فعلا في ذاكرة أبناء الجنوب ووجدانهم. علاوة على الإلحاق الذي تم لتلفزيون عدن (أول تلفزيون في الجزيرة العربية) بتسميته القناة الثانية. وحرق صحيفة صوت العمال، وإغلاق صحيفة الأيام التي عانت من إغلاقها وتشريد ناشريها إبان حكم (ج.ي.د.ش)، وعادت للنشر بعد الوحدة. (خاصة عدن).
اجتياح السواحل والمتنفسات على أيدي متنفذين والإخلال بالتوازن البيئي وتغيير ملامح المدن التي كانت مخططة ليتمتع أبناءها بنسيم البحر في المدن الساحلية الحارة.
أما على مستوى القضاء: تميزت (ج.ي.د.ش) سواء اتفقنا أو اختلفنا حول نظامها السياسي وأيدلوجيته، بصرامة شديدة في سيادة القانون وتطبيق حكم القضاء. وبحسب نتائج الحرب فقد فرض المنتصر نظامه القضائي كل سيئاته التي يتفق عليها المقيم وعابر الطريق.
- أدعت شركة يمتلكها متنفذ شمالي ملكية 1,260,000متر مربع في منطقة "كالتكس" بمحافظة عدن. قررت محاكم عدن الابتدائية و الإستئنافية  أن الوثائق مزورة. وقضت بسجن كل من تورط في تزوير المستندات، وفعلاً تم سجن من كان متورطا من أبناء محافظة عدن، أما المتورطين من محافظات أخرى فلم يتم إلقاء القبض عليهم. قامت محاكم عدن بما اعتادت عليه من تقاليد في مجال عملها القضائي. فما الذي جاء من صنعاء؟ لقد صدرت أوامر عليا من رئيس الدولة حينها إلى النائب العام، بسحب ملف القضية من المحكمة العليا وتسليمه إلى المؤسسة القبلية والقيادات العسكرية، للتحكيم في قضية قد قال فيها القضاء حكمه في المحاكم الابتدائية و الإستئنافية. ووفقاً لحكمهم دفعت الدولة مبلغ مليار وثمانمائة مليون ريال للشركة تعويضاً.
 هذه المنهجية للتعامل مع النظام القضائي في المحافظات الجنوبية، إضافة لعمليات النقل والتدوير للقضاة القائمة على الموالاة لا الكفاءة، وغياب مبدأ الحساب والعقاب والرقابة، ضربت هذه المؤسسة، ما دفع من لم يستطع الانخراط في هذا الأداء المخل من القضاة  للاعتزال والتوقف عن ممارسة هذه المهنة الجليلة طوعا أو كرها، وهو ما جعل العمل في مجال القضاء صعبا على كافة المنخرطين فيه، وما صعب وصول المواطن للعدالة.
نظرا لجهد (ج.ي.د.ش) في إرساء سيادة القانون والاحتكام إليه، وواداء القائمين عليه لأدوارهم بصرامة، إضافة إلى الإرث القديم والذي يمتد إلى ما قبلها مثل إقليم حضرموت ومستعمرة عدن، لم يعد للقبيلة الأدوار التي تقوم بها في الشمال من الحماية وحل النزاعات، هذه الدولة غابت تماما بعد قيام الوحدة وبعد حرب 94م تحديدا، فوجد الجنوبيين البعيدين عن الهوية العصبية صعوبة شديدة في تسيير شؤونهم في ظل السطو والنهب لممتلكات وارض دولتهم السابقة، وهذا تركهم بلا حماية أمام مجاميع المسلحين المدججين بقوة المال والعلاقات العصبوية والسلطوية. ما عمق شعورهم بأنهم أمام قوات احتلال حقيقة جاءت على دبابات الفاتحين في حرب 94.
بهذا انتهت ملامح دولة كانت في الجنوب وغابت تماما،إلا من ذاكرة الجيل الذي عاشها، وفيما نسي هذا جيل خلافات الماضي احتفظت ذاكرته بأجمل ما كان فيه، ونقلت هذه الذاكرة إلى جيل الوحدة أجمل ما كان في حقبة ما قبل 94، وأسوء ما جاءت به جحافل الفاتحين.
الحـــــراك الســلــــمــي الجنـــــــوبي:
  تنامي الحركات الاحتجاجية في الجنوب على الحكم في صنعاء كان بتنامي شعور أبناء الجنوب بالظلم والضيم، ومنها الاحتجاجات المطلبية للمتقاعدين والمبعدين العسكريين، الذين اختاروا التعبير عن غضبهم في 7 يوليو 2007، وامتدت هذه الاحتجاجات في ظل قمع أهوج من سلطة صنعاء لتجتاح الجنوب كاملا فيما سمي الحراك الجنوبي السلمي.
هذا الحراك الذي شكل منعطفا هاما في الحركة الاحتجاجية في الجنوب، ظل متمسكا بمطالبه الحقوقية وبسلميته ، كان يمكن التخفيف من احتقانه منذ البدء عن طريق ترشيد الدولة لأدائها وقيامها بواجباتها تجاه مواطنيها، والإصغاء لمطالبهم، التي تحولت مع ارتفاع وتيرة العنف والتجاهل من النخب السياسية وحتى الثقافية في المركز، إلى مضامين سياسية،، ثم ارتفع سقف المطالب السياسية إلى المطالبة بالانفصال، الذي عدل فيما بعد بمصطلح فك الارتباط، وظهر ما يسمى بالهوية الجنوبية، وتقدمت القضية الجنوبية كقضية سياسية بامتياز واصبح الحراك حراكا سياسيا سلميا، استمر الحراك بتطوير فعالياته الحقوقية السياسية، وانظم إليه كثير من رموز الحزب الاشتراكي اليمني وحتى أعضاء عنه في مجلس النواب[13]، ورموز العمل السياسي والثقافي في الجنوب، فمثل حاملا جديد للقضية الجنوبية، و بدء يأخذ مساحة اكبر من التأييد الشعبي، ما جعل القيادات التاريخية للجنوب الموجودة في الخارج تتزاحم في استقطاب قادة الحراك لإيصال رسائلها السياسية وخلق تيارات لها بداخله (الحراك)، ، وكذلك فعلت الأحزاب السياسية في الداخل وكذا الرموز الشمالية القبلية والعسكرية، الأمر الذي أعطى فرصة للنظام في صنعاء للإدعاء أنها قوى مدفوعة وأنها تقود تمرد على الدولة تديره أيدي وأموال من الخارج، وبهذا تبرر لنفسها رفع وتيرة العنف ضده.
غير أن النظام قام بعدد من الإجراءات وأرسل اللجان تلو اللجان، لدراسة الأوضاع والخروج بحلول، كانت أشبه بلجان وساطة لفرض إرادته دونما رفع للمظالم، وليس تقرير هلال و باصره الذي لم يرى النور حتى ألان إلا إحدى هذه الوساطات. كما حاول احتواء قادة الحراك في محاولة لشق الصف وفرط العقد، و لتهدئة الشارع بإصلاحات هنا وهناك وإعادة بعض المبعدين، أو بالإرهاب عن طريق العنف والحبس والمحاكمات غير العادلة حسن باعوم[14] نموذجا وكذا محاكمة الصحفيين وحبسهم واغلاق[15] الصحف بدعوى تغطية احتجاجات الجنوب.
يرى مراقبون أن  النظام كان عاجزا عمليا عن رفع المظالم نظرا لتورطه بتدمير البنية المؤسسية للدولة، ودخوله في خصومات على جبهات مختلفة منها رفاقه السابقين في السطو والنهب وإدارة البلاد بالأزمات، ما جعله بحاجة لبناء تحالفات واصطفاف جديد يعيد إليه زمام الأمور، وكان دفع الجنوب إلى حرب تطالب بالانفصال هي احد مخططاته لخلق اصطفاف شمالي لحرب في الجنوب الغرض منها هذه المرة ضرب خصومه في صنعاء، من ثم يعود كقائد منتصر وربما يبدأ بحل مشكلات الجنوب بعدها.
على جانب أخر لا نغفل حرب شمال الشمال التي ابتدأت في 2004م، ومرت بدورات ست كبيرة معلنة بين القوات النظامية والمجاميع القبلية والدينية ذات القوى المسلحة بمواجهة ما يسمى (بالحوثيين) سابقا و(أنصار الله) حاليا، وانتهت هذه الحرب رسميا عام 2009م، ولم تنته عمليا بعد [16] ، زج النظام بقوات عسكرية جنوبية كبيرة في هذه الحرب، وكذا جند ما يسمي الإسلاميين عدد كبير من شباب الجنوب للحرب في صعده، وكان أن أطلق الحوثيون سراح عدد كبير ممن أسرهم فيها منهم وامن عودتهم لديارهم سالمين ما اثر في الشارع الجنوبي. وقد جرى بشكل أو بآخر اعتراف أو على الأقل تعاطف متبادل بين الحركة المطلبية المسلحة في شمال الشمال، والسلمية في الجنوب.
الجنــوب مسرحا للحـــركات المتـــطرفة ومكافحة الإرهاب:
أدى الغياب المفاجئ للدولة، ووجود الخطاب الديني السلطوي الذي كان يتجه إلى نعت الجنوب بانعدام الوازع الديني، وبدعوى محاربة الماركسية وأثارها الفاسدة، ونشر دين الله، كل ذلك  أدى إلى إحلال كيانات متطرفة نمت وتمددت في الجنوب سواء بتنسيق مع النظام في صنعاء أو بدونه، توسعت المكونات اللاقانونية وشغلت مساحات شاسعة، وفتحت مراكز للتدريب، ومسارح للعمليات.وهنا يظهر جيش عدن أبين، وقاعدة شبه الجزيرة العربية، التي اتخذت من مدن وقرى في الجنوب مركزا لنشاطها الإرهابي، وأنصار الشريعة مؤخرا، ما جعل هذه المنطقة هدف للجهود الوطنية والدولية لمكافحة الإرهاب، هذه الجهود التي لم تخلوا من أخطاء أصابت مدنيين[17] ولم تخلوا أيضا من استغلال نظام صنعاء الوضع لمعاقبة أبناء الجنوب الخارجين عن طاعته وما المعجلة ببعيدة عن مدارك الجميع.
ثـــــــورة فـــبرايــــــر 2011م:
بدأت الاحتجاجات الواسعة في الشمال منذ الخامس عشر من يناير 2011م، لتشتعل اليمن كاملة وتلتحق بثورة الشباب الشعبية السلمية 11فبراير 2011م، التحمت هذه الثورة ببداياتها الممثلة في احتجاجات الجنوب السلمية "الحراك الجنوبي"، وسقط عدد كبير من الشهداء[18] في مدن الجنوب في الأسابيع الأولى لثورة فبراير 2011م، وواجه النظام الاحتجاجات في الشارع الجنوبي بوحشية أعلى من مواجهته لهذه الاحتجاجات في الشمال، ما عزز لدى النشطاء شمالا وجنوبا تعامل النظام مع الجنوب كمحتل.
 وباتفاق مع اللقاء المشترك خفض الحراك من مطالبته بفك الارتباط واستعاض عنها بـ"ارحل"، على أن لا ترفع أعلام (الوحدة أو الجنوب) في المسيرات المشتركة، إلا انه في ابريل 2011م أخلت أحزاب اللقاء المشترك بهذا الاتفاق ورفعت أعلام الوحدة.
في 2011م زاد التواصل بين النشطاء في الثورة من تعز وصنعاء، بنشطاء الحراك وغيرهم في الجنوب لتنسيق الجهود في مناهضة نظام صنعاء، وتميزت الأنشطة في خضم الثورة بخروج مسيرات تهتف باسم صنعاء وتعز وغيرها من مدن الشمال، في مدن الجنوب، وكذا مسيرات تهتف باسم عدن وغيرها من مدن الجنوب في المدن الشمالية.
فيما تحرك النشطاء في اليمن كاملا استنكارا لحادثة مصنع الذخيرة بابين 28 مارس 2011م، هذا الحادث الذي ظهر فيه اتهام واسع للنظام سواء بتهمة "الفعل" أو "الامتناع عن الفعل"، والتي كانت الخطوة الأولى لانسحاب الدولة من أبين ومن ثم تسليمها لأنصار الشريعة، وجعلها مسرحا لأبشع الممارسات ضد المدنيين، و تهجيرهم وقتلهم باسم الدين.
حين بدأت ملامح الفعل الثوري بالانحسار وظهرت ملامح التسوية السياسية في الظهور بدء صوت المطالبين بفك الارتباط يعلو مرة أخرى، حيث أن أطراف الاتفاق هم ذاتهم أطراف حرب 94، وعاد علم الجنوب يرفع بشكل اكبر وأوسع من ذي قبل، وهذا لا يعني أن الشارع الذي كان يحمل أعلام الجنوب لم يكن يحمل معه صور لمن كانوا أطرافا ليس فقط في حرب 94م بل في كل الأحداث الدامية التي شهدها الجنوب قبل 1990م.
بعد تنحي صالح عن الحكم وتولي الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، انتظر الجميع تحسن في التعامل مع الاحتجاجات في الشارع الجنوبي إلا أن هذا لم يحدث، وما كانت المواجهات التي حدثت في 21و22 فبراير 2013م، إلا صورة لذلك فما حدث في ساحة العروض في عدن أعاد للذاكرة الجنوبية مشهد اجتياح عدن "94"وذات التحالف بين النظام وحزب الإصلاح، و مثلت النقاط العشرين التي وضعتها اللجنة الفنية التحضيرية للحوار معيارا لمدى حساسية النظام للقضية الجنوبية. وكل تأخير في تنفيذها يمثل تكريس لدعوى فك الارتباط التي بدأت فعلا تتحول إلى أيدلوجيا، وتؤثر على الحياة الاجتماعية في اليمن كافة التي ارتبط فيها أبناء الشمال والجنوب بروابط اجتماعية، ومصالح صارت متداخلة إلى حد يصعب فصلها، هذه الدعوى للانفصال لم تخلوا من حالة إقصاء للأخر المتمسك بالوحدة مع إصلاح أداء الدولة وشكلها، و الذي لم يعد يستطيع أن يرفع صوته خوفا من رد فعل دعاة الانفصال.
كما أن حالة الاستقطاب العالية في الشارع الجنوبي لكل القوى التي خاضت صراعات مسلحة ضد بعضها في الماضي لا يوحي أن هذا الشارع قد استفاد من دروس كل المراحل السابقة، فيما بدأت ملامح لدخول أموال لإطراف إقليمية، لها تجارب مختلفة في جعل الدول الأخرى مسرحا لصراعاتها.
فيما أصبحت تهم التخوين هي السمة الغالبة من المكونات المختلفة في الفعل الاحتجاجي الثوري في اليمن شمالا وجنوبا.
ثالثا: الاستخلاص:
1-    بعيدا عن الجغرافيا لا يوجد أساس في التاريخ القديم  لوجود كيان سياسي اسمه اليمن الواحد أو كيان اسمه الجنوب العربي على هذه المساحة الجغرافية لا شمالا ولا جنوبا ولا فيهما معا. وهذا يوضح أن القائلين بـ(الوحدة آو الموت .. أو.. الانفصال أو الموت) لا يستندون إلى سند موغل في التاريخ.
2-    رغم وجود هويتين سياسيتين في الشمال والجنوب إلا أن هوية اليمن الموحد ظلت هي الطاغية في الخطاب السياسي والثقافي والمناهج التعليمية في التاريخ المعاصر.
3-    رغبة الضم والإلحاق لم تكن لطرف دون أخر في الصراع بل كانت متبادلة بين الجانبين.
4-    وحدة 1990 اعترتها عيوب كبيرة وحملت أسباب موتها، ويتحمل 50% من المسئولية في ذلك القيادات في الجنوب، حيث ظل الخوف من الرفاق ومن الأزمات الداخلية بين القيادات هو الهم الأكبر ما اضعف موقفة التفاوضي في مرحلة الوحدة وما بعدها، وهذا لا يبرأ القيادات في الشمال من ذات القدر من المسئولية.
5-    الذهنية القائمة على الفيد وأخلاق المحتل (لقوى الشمال) من أهم جذور و أسباب القضية الجنوبية.
6-    توريط الدين في الصراع السياسي خطأ فادح تدفعه ثمنه الأمة بما تعانيه من خلل في السكينة الوجدانية.
7-    توضع الأيدلوجيات لتخدم مصلحة الشعوب وليس العكس.
8-    طمس الإرث المؤسسي والقانوني والثقافي والاجتماعي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتحقيره وتجريمه أدى إلى تنامي الشعور بان إي تواجد شمالي هو تواجد لقوى احتلال.
9-    التخلص من الكفاءات والتكنوقراط الجنوبية خاصة والوطنية عامة كان إحدى دوائر التفرد بالحكم الذي القي ظلال كثيفة على القضية الجنوبية.
10-              غياب الدولة وتنحية المؤسسات وتعطيل أدوارها، وإدارة الحكم بشبكة الموالاة هو جذر مهم في هذه القضية وكافة القضايا الوطنية.
11-                       الإقصاء والتخوين والعنف هي من أهم عوامل عدم تبلور مشروع جنوبي واضح وعدم ظهور قيادات جديدة، بعيدا عن القيادات التاريخية المتصارعة والمضعفة له.
12-                       النظرة الاجتماعية الدونية  سمة يتبادلها اليمنيون (بين الشمال والجنوب والعكس) و (في الشمال) و (في الجنوب).
13-                       عدم استجابة النظام للاحتجاجات المطلبية، ومقابلتها بالعنف جعلها تنتقل إلى مطالبة سياسية باهظة الكلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وإحدث شرخا غائرا في النسيج الاجتماعي.
14-                       الفجوة المعرفية وانخفاض الحساسية لدى النخب الشمالية حول مضامين ومدلولات القضية الجنوبية عيب كبير ومساواتها بقضايا أخرى في الوطن خطأ معرفي يعزز من ثقافة الانفصال.
15-                       لا يمكن إغفال أثر غياب المواطنة وكذلك الصراع الجنوبي الجنوبي في استعادة الهويات الصغيرة (العدنية – الحضرمية – ...الخ).
16-                        الوحدة بصورتها الحالية هي وحدة شمال بثروات الجنوب وليس بشعبة ثقافة وتاريخا وأنسانا.
17-                       لا يمكن أن نتجاوز صراعات الماضي ونتجه إلى المستقبل بإقامة دولة (شمال/ جنوب/ اتحاد) معمدة بالدم.







[1]  ذهب ضحية ذلك التمرد الآلاف من المقاتلين والمدنيين، ولا زالت الألغام التي خلفتها تزهق أرواح الأبرياء.

[2]  استمر الإقصاء حتى بعد قيام الوحدة عندما اشترط الحزب الاشتراكي اليمني أخراج الزمرة من صنعاء ولم يمثلوا في الحكومة إلا بمقعد واحد من حصة الشمال.
[3]  جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية
[4]  الجمهورية العربية اليمنية
[5]  تقرير مجموعة الازمات (الاصلاحات الامنية - العسكرية في اليمن: بذور صراع جديد؟) رقم 139 ابريل 2013م.
[6]  اغتيال خالد سيف مسئول الحزب الاشتراكي في منطقة النجدة بتعز في 4 ابريل 1994
 النازحة في أحداث 1986م والتي يطلق عليهم ألزمره [7]
[8]  استمر هذا البرلمان حتى لحظة كتابة هذه الورقة ومن المفترض أن تتم انتخابات برلمانية 2014م.
[9] قرار مجلس الوزراء رقم 15 لعام 94 بشأن خصخصة المؤسسات والمرافق العامة، قرار مجلس الوزراء رقم 8 لعام 1995 بشأن الاجراءات التنظيمية للخصخصة، وقرار مجلس الوزراء رقم 6 لعام 1996 بشأن انشاء المكتب الفني للخصخصة الذي يعمل تحت اشراف رئيس الوزراء، صدور قانون الخصخصة رقم 45 لعام 1999.
[10]  ذكر المؤرخون أن الاقتصاد الاشتراكي في جنوب اليمن سابقا كان بالفعل في هبوط حاد قبل فترة طويلة من الحرب الأهلية http://www.hrw.org/reports/2011/03/09/days-bloodshed-aden-0


[11]  كان يوضع في المراتب الثلاث الاولى من حيث الاهمية عالميا.
[12] خاصة عدن
[13]  صلاح الشنفرة  وناصر الخبجي
[14]  من أهم قادة الحراك وعضو مجلس قيادة الحراك، وكان قريب من علي سالم البيض، تعرض للسجن اربع مرات احداهن منذ بدء الحراك 2007 وتمت محاكمته أمام الجنائية المتخصصة بامن الدولة واستمر سجنه لمدة عام، في 20 فبراير 2011 اختطف من المستشفى وتم إخفائه ثم اطلق بعد تدهور حالته الصحية. باعوم سبعيني يعاني من مشاكل في القلب ومن مرض السكر.
[15] وزير الإعلام حسن اللوزي أعلن في 4 مايو/أيار2009 عن حظر على توزيع ثماني صحف يمنية مستقلة يومية وأسبوعية كبرى، هي الأيام والمصدر والوطني والديار والمستقلة والنداء والشارع والأهالي، جراء نشرها موضوعات "ضد الوحدة الوطنية والمصالح العليا للبلاد" و"التحريض على انتهاك القانون والنظام، ونشر الكراهية والعداوة بين شعب اليمن الواحد". كما فرضت الحكومة رقابة غير رسمية، ووضعت "خطوطاً حمراء" تشمل أي نشر لمقابلات مع قيادات الحراك الجنوبي أو صور مصابي وقتلى الاحتجاجات وذكر أسماء منظماتهم. هيومن رايتس ووتشhttp://www.hrw.org/ar/world-report-2010-26
[16] الحرب الأيدلوجية المسلحة مستمرة بين مجموعة "أنصار الله" و ما يسمى مليشيات حزب الإصلاح من جهة، وبين "أنصار الله" والقوى السلفية المسلحة في دماج من جهة أخرى
[17]  هجوم بصاروخ كروز على أفراد مشتبهين بالانتماء للقاعدة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2009 - أسفرت عن مقتل 41 مدنياً على الأقل في منطقة أبين بالجنوب
 سقط في يوم 16 فبراير2011 فقط خمسة شهداء في المنصورة وحدها و40 جريح.[18]




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق